لقد كان حلما تائها ترجل ثم رحل
سالمة بنت هلال الراسبية
الصداقة ليست مجرد مشاعر تختلج القلوب لتربط بين اثنين أو أكثر، الصداقة الحقيقية هي المواقف التي يظهرها الآخر لك في أوقات الشدة، والفرح، والغربة. كنا سبع صديقات، وأنا الثامنة، لم تكن تربطنا علاقة مصاهرة، أو نسب، أو قرابة، كل ما في الأمر أننا من نفس الولاية، ودرسنا في مدرسة الوافي، ثم انتقلنا إلى مدرسة الكامل الثانوية للبنات، وهناك التقينا بصديقتنا الثامنة لتكتمل باقة الورد الندية.
ولأننا متفوقات منذ الصفوف الأولى إلى الثانوية العامة وبنسب مرتفعة، تم قبول أغلبنا بجامعة السلطان قابوس، إلا أنه ولأسباب متعددة التقت رغباتنا، وبدون تخطيط مسبق إلى الانتساب لكليات التربية للمعلمين والمعلمات، ثم شاءت الأقدار أن نلتقي في كلية عبري نفسها، لنتخرج معلمات. وبين البداية والنهاية ضمتنا مواقف عديدة نتذكرها إلى يومنا هذا، مواقف بين فرح وبهجة، تجمعها العفوية المطلقة، ومشاعر المحبة والألفة، كما جمعتنا مشاعر أخرى أكثر ألما، الاشتياق، الغربة، المرض، الجوع، العطش، ومنها على سبيل المثال: عندما نرفض الوجبات المقدمة من مطعم الكلية آن ذاك، معترضين على أنها لا تناسبنا، كنا نخرج من سكن الطالبات فجرا إلى مبنى الكلية القريب منا للوضوء، فانقطاع المياه كان مستمرا، ولكي لا تتكرر هذه المآسي، تجمهرت الطالبات لعمل مظاهرة، حيث كان في ذلك الوقت مشهد المظاهرات يتكرر بين الفتيات السابقات في الكلية، كرسالة اعتراض للممارسات القاسية من قبل إدارة السكن، والشركات المتعاقدة معها، من شركات تغذية إلى نظافة. وعلى الرغم من معالجة الوضع، وأصبح أفضل، إلا أن مشهد التجمهر والهتافات ما يزال في ذاكرتي.
ورغم أن كلمات السخرية التي نتبادلها لم تكن تضايقنا.
حيث من فرط المحبة والأخوة التي نكنها لبعضنا بعضا نتجاوزها؛ لنكون طرفا مستغفلا لمعناها، ومتجاوزا لحدودها، فنتقبلها وكأنها مصطلحات تقويمية لسلوكنا، وبكل سعادة أيضا.
لم تكن سنوات تخرجنا وعملنا في سلك التدريس ثم انتقالنا إلى بيوت الزوجية، وتشكيل عوائل مصغرة عاملا مفرقا لنا، بل كانت تربطنا ببعض أكثر.
وبالتأكيد أفضل من مجموعات (الواتساب) التي لا تشبع رغبة الاشتياق، والحضور، والعناق، والمحبة الصادقة النابعة من قلوبنا، كما أنه تجمّعنا بين فترة وأخرى هي محاولة منا لنتحدى غدر السنين البائس لتغيير ملامحنا، ومشاعر محبتنا الصادقة، ولنثبت للأعوام المتقادمة، وللظروف المتراكمة أننا ما زلنا نبحر على نفس القارب، ولم نصل إلى يابسة الافتراق الأبدي.
وذات مره اقترحنا الخروج للتنزه في أحد الاماكن بالمدينة، ولأن ظروف كل واحدة كانت مختلفة، اجتمعنا أربع من ثمان للخروج، وهذا شيء طبيعي من الوهلة الأولى، وبينما نحن في الطريق حيث كنا نتبادل أطراف الحديث، متذكرين العديد من المواقف لتسخر كل واحدة من الأخرى، ثم نختم حديثنا بضحكات ودموع الفرح، وأثناء تلك اللحظات الدافئة بالمشاعر الأخوية الصادقة جاءتني رسالة بهاتفي
مكتوب فيها: -إنا لله وانا إليه راجعون- زميلتكن “عدن” في ذمة الله.
تاه عقلي بعيدا عن تلك الضوضاء، وبنظرات شاردة التفتُّ إلى جانبي، وكأني اُشير إلى أحدٍ ما كان جالسا بالأمس بجانبي، إنها (عدن) نعم!! كنا بالأمس نتسامر ونتبادل الحديث على مواقف حدثت سابقا، لم تكن هنالك أي مؤشرات على مرضها، أو وجعها ماذا حدث لها؟! هي فقط اعتذرت عن الذهاب لظروف بعد المسافة بيننا، سرت في جسدي قشعريرة، حاصرتني الذكريات من كل جانب
لتلف حولي شريطا سرمديا مظلما، خنقتني العبرة..
الدموع تزاحمت بمقلتي، لتتسابق على خدي
ويحي!! ضلعي انكسر، قطعة من قلبي دفنت تحت التراب للأبد
لماذا يا عدن ذهبتِ عنا بلا وداع؟!
لماذا أسرعتِ بالرحيل؟! ألم تطمئن روحك بنا ومعنا؟!
أم قصرنا في حقك يوما؟! هل أزعجناك بأصواتنا؟!
أم ضجرتِ من سخريتنا؟!
(عدن) عودي لنا.
كي نتسامر تحت ظل الشجر
كي تدنو مني همساتك، وتغفو عيناك على كتفي بخفة على ضوء القمر
عودي يا قطعة من ذهب
يا عدن أنتِ السماء بزرقتها والأرض حتى النهر
وفي تلك اللحظات من المشاعر البائسة المختلطة بالغربة والفراق، انعكس نور الشمس على عينيّ المغمضتين، ليبدد الشبح الجاثم على صدري
دموعي تملأ وجنتي، وإذا بصوت عالٍ التقطتُّ أنفاسي على أثره، إنه المنبّه المزعج يرن، وسمعت تردد لساني المثقل، وهو يقول:
الحمد لله، (عدن) بخير، هل هو الاشتياق؟!
أم فرط المحبة؟! أم أي شيء آخر؟!
المهم عندي، إنه كان حلما تائها ترجل ثم رحل.
ولحكاياتنا بقية إن شاء الله