خلف الجدران
بدرية بنت حمد السيابية
يُقال كل شيء له حدود، ولكن للأسف الشديد أصبحنا لا نُدرك معنى هذه الحدود، وأصبحنا كاشفين كل الأسرار لمن يجالسنا أو نخاطب بها العابرون دون قيود، مفصحون لهم ما تحمله هذه البيوت والجدران الصامتة والمستمعة في آن واحد، وكأننا نُعطي من حولنا أسرارنا على طبق من ذهب، نعم، كنا في الماضي لا نعلم ما يدور في البيوت أو في أنفس الناس من تعابير وأسرار كُتِمت بينهم، ولا أحد يعلم بها إطلاقًا؛ فالسر يموت مع صاحبه.
أصبح الآن يتدّخل الغريب بيننا بسهولة ويسر، وجد ثغرة يتسلل منها ليتعمق بين أفراد العائلة؛ فمثلاً عندما نُعطي لهؤلاء فرصة الدخول بيننا فإننا لا نعلم أي حوار سيدور بينه وبين الطرف الآخر، لربما هذا الغريب سيزيد “الطين بلة” عندما نُعطي الغرباء أسرارنا لنضع حدًا بيننا-وضع حدود لتدخل الأصدقاء- فمن الممكن أن يكون التدخل المبالغ فيه من قبل الأصدقاء سبباً لافتعال المشاكل بين الزوجين، وكمثال: التفاهم منذ البداية على أن أسرار المنزل يجب أن تبقى داخل المنزل ولا يجب الإفصاح عنها. فوضع الحدود في العلاقة منذ البداية يجعل هذه العلاقة تنعم باستقرار دائم.
هناك فئة من الناس شغلها الشاغل التدخل في خصوصيات بعض الناس والتربص لهم في كل وقت، لدرجة مراقبتهم طوال اليوم. في الحقيقة هذا التصرف البغيض يُولِّد الكره والعداوة، فينصتوا من خلف الجدران إذا سمعوا علوًا من أصوات أصحاب البيت تنسكب عليهم الطمأنينة والفرح؛ فأيّ حقد هذا؟!
فدائمًا يجب أن نكون حذرين لهذا النوع من الناس، أصبحنا في عالم التكنولوجيا الحديثة، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي فمن هنا انطلق تفكك الأسرار.
محاولات التطفل وتسلق جدران أسرار البيوت لا تتوقف، يستدرجون الأطفال الصغار ليخضعوهم لجولات تحقيق مكثفة، للحصول على اعترافات من عمق البيت، تتحول هذه الأسرار لاحقًا إلى أسلحة تستخدم في ساحات النزال العائلية، والجيران يمارسون أعمال قرصنة واختراقات عبر الشبابيك ليصطادوا معلومة أو يكتشفوا سرا، ويتحولوا إلى وسيلة إعلام صفراء تنشر الغسيل، وتنقلها عبر محطات النميمة والمجالس، وهذا فعلًا من الواقع وبعضنا قد صادفه هذا الأمر.
أصبح التصوير عاملًا من عوامل تفشي الأسرار، كل ما نقوم به أصبح على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، ماذا أكلنا، ماذا شربنا، وماذا اشترينا؟ دون وعي ولا إدراك، هل هذا التصرف صحيح؟! كانت البيوت قديمًا كصناديق مغلقة لا أحد يعلم ما بداخلها.
الإنسانُ كائنٌ اجتماعيّ بطبعه، وقد قال الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ: ما سُميَ الإنسان إنساناً إلا لأنّه يأنسُ بغيره! ولكن هذا لا يعني أن الأُنس لا يتحققُ إلا حين نتخلى عن خصوصيتنا!. نُعزّي أهلَ الفقيدِ بفقيدهم، ونُهنّئ أهلَ العرسِ بعريسهم، نعودُ مريضاً، ونزورُ صديقاً، نحترمُ جاراً، ونُجلُّ عجوزاً، ونوقّرُ عالماً، نناقشُ فكراً، ونطرحُ رأياً، هذا هو الأُنسُ بالنّاس، وهذا ما يُشبعُ غريزة الاجتماعِ المدفونة فينا، لا في أن تكون البيوت مشاعات!.
لندرك بأن هناك خصوصية لا يجب أن تُعلن على الملأ، ولنغرس أيضًا في قلوب صغارنا هذا المفهوم، ونعلمهم بأن لا يكونوا مصيدة للمتطفلين وللغرباء وللسائلين، نغلق أسرارنا في قلوبنا ولا نبوح بكل صغيرة وكبيرة، فكتمان السر طريق النجاة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سِرُّك أسيرك، فإن تكلَّمتَ به صِرْت أسيره، فكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه، ولو كتمه أمِنَ سطوته. قال بعضهم: من حصَّن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات.