انتفاضة رمضانيّة
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في الانتفاضة حركة، والحركة يتبعها- لا محالة- تغيير، والتغيير ينتج عنه أثر، فمن انتفض أنتج. ولكل منا انتفاضة رمضانية، لكن.. هيهات هيهات بين من دخل عليه شهر رمضان فانتفض، ومن خرج منه صفر اليدين وانطفأ!!
روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:( رغِمَ أَنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ ، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَهُ أبواهُ الكبرَ فلم يُدْخِلاهُ الجنَّةَ). أخرجه مسلم: (2551).
فمن أدرَك شَهرَ رمَضانَ ثم خرج منه ولم يغفر له؛ لأنه لم يجتهد في العبادة، ويشمر في أداء الطاعات حتى انتَهى الشَّهرُ؛ فقد خسر خسرانا مبينا.
وما زال الوقت أمامنا لندرك أبعاد هذه الانتفاضة والتماس مواضع التغيير وإدراك الأثر، ولنستنشق عبق ذلك من خلال قطوف قرآنية وسنة نبوية رمضانية غنّاء من خلال ما يأتي:
** قبيل شهر رمضان وفي أثنائه نردد كثيرا قول الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].(البقرة:183)
هدف الصيام التقوى، والإنسان بطبيعته يقبل على حب الشهوات عامة، يقول الله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]. (آل عمران:14).
ومفتاح التحكم في الشهوات قوتان: قوة الإيمان، وقوة الإرادة، فمن قوي إيمانه وإرادته تحكّم في شهواته؛ ومن ثم يتدرب حتى يصل إلى مرحلة التقوى المنشودة من حكمة الصيام.
وكل منا في أثناء شهر رمضان يحاول جاهدا من خلال الأعمال الصالحة أن يصل إلى مبتغاه من الصيام، ويقوى إيمانه، لكن الأمر يختلف بعد وداع الضيف العجول، فنجد أنفسنا في حاجة إلى التمسك بأخلاق الشهر الفضيل، والمداومة على فعل الطاعات والابتعاد عن اقتراف المعاصي والآثام، وهذا يتطلب جهدا كبيرا وعزيمة تحافظ على القوى الإيمانية الخفية التي أضاءت لنا دروبنا، وحرّكت نفوسنا خلال شهر كامل نحو الطاعات والأعمال الصالحة، ومن ثم تغيّر سلوكنا وسمت أخلاقنا، وبقي أن نجني أثرها ونلحظه من خلال الامتثال لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، والاقتداء بسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم.
** روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:”إذا كان يَومُ صَومِ أَحدِكم فَلا يَرفُثْ، ولا يَجهَلْ، فإنْ جَهِلَ عليه أَحدٌ فليَقُلْ: إني امرُؤٌ صائِمٌ”. أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الصائم في هذا الحديث عن كل ما يدل على الفحش في الكلام، والصياح والخصام وغير ذلك، وأردف بذكر الوقاية من ملاقاة مثل ما يفسد الصوم خلال التعاملات اليومية مع الآخرين، فإذا جهل علينا أحد بسب أو شتم أو نحو ذلك من الأعمال المنكرة؛ فليقل كل منا:”إني امرُؤٌ صائِمٌ”، فالصوم الحقيقي هو صوم جوارحنا عن اقتراف المعاصي والآثام، لا الإمساك عن الطعام والشراب فقط.
هذه انتفاضة سلوكية رمضانية لا يقوى عليها إلا من أعانه الله تعالى وقوّى عزيمته، وإن من أوتي الحكمة في إمساك نفسه عن الرد على الآخرين في جهلهم؛ سيجد حلاوة في التغيير السلوكي له خلال هذا الشهر، ويكون أثره فيه طيبا بعد ذهاب الضيف العجول، ويصبح هذا سلوكا مكتسبا بفضل الامتثال والاقتداء بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
فلْننتفض ولْتتحرك نحو فعل الطاعات؛ ليتغير سلوكنا، ولتترابط أسرنا؛ فيقوى مجتمعنا، وينتج عنه أثر محمود لنا ولغيرنا.