أبعاد نفسية خلّفتها العبودية في “سيدات القمر”
فاطمة اللواتية
لما كان الإنسان خليطا جميلا من كل شيء ناقص؛ فإن رواية “سيدات القمر” التي كتبتها الدكتورة جوخة الحارثية، وحازت بها على جائزة (المان بوكر) كأول امرأة عربية عام 2019 بيّنت لنا أن هذه النواقص النفسية أصلها التنشئة غير السليمة، وأن العبودية التي تُفرض من المجتمع تحت مسمى العادات والتقاليد أحيانا، ومن ممارسات الآباء الخاطئة أحيان أخرى، هي ما تجعل الإنسان مهزوزا، وغير قادر على الابتسام وإكمال الطريق بسعادة وثقة، وهذا ما جعل الرواية بشكل غير مباشر تمس قضايا تربوية ونفسية نلتمسها في حياتنا كأفراد نشكل جزءا لا يتجزأ من هذا المجتمع.
هذه الرواية ترجمت للغات كثيرة منها: الفرنسية، والفارسية، والروسية، والميلاليم الهندية، والإيطالية التي صدرت هذا العام، والإنجليزية تحت اسم “الأجسام السماوية” التي ترجمتها الباحثة والكاتبة “مارلين بوث”، وهي النسخة الحاصلة على جائزة (مان بوكر)، أما النسخة العربية فهي صادرة عن دار الآداب، رسمت غلافها نجاح طاهر، فتتراءى لنا فتاة عمانية تلبس خمارها المعروف باسم (الليسو) تعطينا ظهرها، وهي تنظر للنخل الباسقات أمامها، فهذه البيئة العمانية المرسومة في الغلاف والممتزجة بالنص مثلت للغرب ما يسمى (دهشةَ الآخر) لما وجدوه من أمور لم يعهدوها في تواريخهم الثقافية والحياتية، إلا أننا كملمين بشيء من هذا الواقع قد تثيرنا زوايا أخرى أكثر عمقا، لها أبعاد نفسية وتربوية خلفتها مفاهيم العبودية الواردة في النص.
فمنذ الوهلة الأولى في القراءة تتراءى لنا (ميا) الفتاة النحيلة الشغوفة بالخياطة، والتي “كانت تجلس على كرسيّها الخشبي خلف الماكينة في آخر الدهليز الطويل حين جاءت أمها متهلّلة ووضعت يدها على كتفها: ميا… يا بنتي… ولد التاجر سليمان يخطبك”، فخطبت وزُفت إلى (عبد الله ابن التاجر سليمان)، وهي تكبت في داخلها حبا غير معلن لعلي بن خلف، وكأنها أسيرة العادات والتقاليد التي تفرض على الفتاة ألا تنبس ببنت شفة عن حبها، ويعتقد المجتمع أن سكوتها “خجل”، فتتجلى عبودية غير واضحة للعادات والتقاليد في بداية النص، وتصدمنا الكاتبة بعدها بإذهاب قصة حب ميا أدراج الرياح، فتكسر قاعدة الروايات الكلاسيكية التي تجعل الفتاة تتذكر حبها طيلة الرواية؛ لكنها بيّنت الأثر النفسي، أو بحسب تعريف عالم النفس (سيغموند فرويد) التراكمات النفسية التي خلفها هذا السكوت على علاقة ميا بزوجها، وبانكسارها الدائم، وشغفها المطفي طيلة الرواية حتى بعد تكوينها عائلة من بنين وبنات!
ثم تفاجئنا الكاتبة بأن العبودية الحقيقية والشخصية الرئيسة ليستا متجليتين في (ميّا)، بل في الشخصية التي نعتقد كقراء أنها ستكون الأسوأ في الرواية، وهي شخصية (عبد الله زوج ميّا)، ثم تدهشنا بأن هذا الأخير كانت حياته في أوج قساوتها، وتجعله الراوي لحكايته مع تناسب مقام السرد الذي يقع في الطائرة بين السماء والأرض، وهو يغادر إلى فرانكفورت، ويسرد للمضيفة حكايته بتسلسل زمني غير مرتب مع المضمون المعبّر عن اضطرابه النفسي الذي خلفه والده فيه، وكأن الكاتبة قد جعلت مقام السرد يشبه فكرة (التداعي الحر) للمرضى النفسيين.
وتكمن تجليات العبودية في حياة عبد الله في أن والده كان ثريا، واعتاد على التعامل بقسوة مع عبيده، فصار يعامل ابنه باستهزاء وكأنه عبد من عبيده، ويعاقبه بعقوبات قاسية، فيتكرر في الرواية ذكر مشهد البئر الذي زجه فيه والده بعدما سرق بندقيته ليصطاد العقعق بأمر وضغوطات من العبيد الساكنين في القصر، والذين كانوا من نفس سنه، فيذكر هذه القصة في كل ضيقة، ويقول: “لا تنكسني في البئر أرجوك!”
كما أن تربية سليمان لابنه تقوم على تحطيم الآمال، فيحدّث عبد الله المضيفة عن شهادة الثانوية: “في المساء أريتها أبي وأنا ألهث. ضحك وقال: (ولهثت هكذا مثل الكلب أمام الناس؟… لن تنفعك هذه القرطاسة ينفعك هذا)، وضرب جيب دشداشته.”، وأما معلمه الذي يمثل مقام الأب الثاني، فقد كان على غرار والد عبد الله في تحطيم الآمال، فصدمه وهو طفل يتمنى بث أحلامه وهمومه إلى الغيم أنها مجرد غاز: “انفجر أستاذ ممدوح من الضحك: (لما حتكبر حتبقى إيه؟ تكبر وتطير وتجلس فوق الغيم؟ الغيم ده زي البخار يا عبيط.. هوا.. يعني هوا..)”.
إن هذه المشاهد القاسية قد لا تكون متمثلة بهذه الصرامة والقسوة في الواقع إلا إنها موجودة بأشكال مختلفة، والمفاهيم التربوية الحديثة تنهى عن ضرب الأطفال ومعاقبتهم بهذا الشكل غير الإنساني؛ لما له من أثر وتبعات على نفسيته حينما يكبر، ويسمون ذلك “جروح الطفولة” التي يعمد الكثير من الأخصائيين النفسيين لحلها؛ حتى يستعيد المرء استقرار حياته ونفسيته، ويعيش متزنا وسعيدا.
كما أن أدوار الآباء والمعلمين في مساعدة الأبناء لصعود سلم النجاح واتباع شغفهم أمر لا تخفى أهميته على أحد، ولعل هذا الواقع يعيشه الكثيرون ممن يتذكرون كلمات دفعتهم إلى القمة، أو كلمات قتلت فيهم شغفا كان لا بد له أن يعيش ليكبر معهم، وهذا الأمر الأخير قد يجعل الإنسان يعاني طيلة حياته من كلمة، أو موقف تظل تراكماته ممتدة طيلة العمر، وهذا ما لم تغفل عنه الكاتبة في حياة عبد الله حينما كره الضحك؛ لأنه كان يلاقيه استهزاء لا سعادةً: “أنا أكره الضحك، حين يضحك الناس يصبحون كالقرود وتهتزّ بطونهم ورقابهم…”.
ثم إن الكاتبة لم تترك الرواية دون نتائج، فتذكر مدى اضطراب عبد الله في علاقته مع أبنائه، فهو يحاول تعويض ابنته (لندن) عن جميع الأمور التي حرم منها في صغره، فجعلها تدرس في الخارج، وتجرّب الحياة حرة، وكأن الكاتبة استندت إلى فكرة “النقص والتعويض” التي قال بها عالم النفس “أدلر”، بينما نجد اضطرابا في علاقة عبد الله مع (سالم)، فكرر شخصية والده الذي كان يحاسبه على دخوله وخروجه من المنزل، ولكن بطريقة تواكب مظاهر الحياة العصرية المتغيرة عن سابقها، فيجد القارئ أن حياة عبد الله مهزوزة، تنقصها السعادة والثقة والاستقرار العائلي، ولا يجيد التعامل مع أبنائه بصورة متزنة لما عاناه في الصغر، ففاقد الشيء لا يعطيه، وهذا كله أثر ما خلفته تصرفات والده التي كانت تقوم على أنه عبد وليس ابنا، فيتصرف معه على أنه ملك له، وعليه أن يتبعه ويكون مثله ليكون رجلا حقيقيا، ويفخر به!
إن مثل والد عبد الله كثيرون، ولكن بصورة أخف، فكم من الآباء لم يؤمنوا بشغف أبنائهم؛ لأنهم فقط لم يكن لهم جرم سوى اختلاف أفكارهم وميولهم، وكم هم الذين عانوا من سوء المعاملة في الصغر حتى كبروا وكبرت معهم جروحهم، فلم يعرفوا كيف يُنشئوا استقرارا عائليا في حياتهم، وكم من الفتيات لم يعشن حياتهن كما يردن بسبب العادات والتقاليد؛ فحرمن من دراستهن، أو من اختيار الحياة الأنسب لهن، فالأمور المذكورة في الرواية إنما هي تمثيل للواقع، ولكن بحبكة درامية تراجيدية قوية التأثير؛ حتى لا تتكرر أخطاء الشخصيات في مجتمعاتنا، فينشأ جيل مضطرب نفسيا، غير قادر على خلق حياة متوازنة، كما أن الرواية تبين أن أثر هذه التنشئة الخاطئة يستمر جيلا بعد جيل، فلا بد من إيقاف ذلك.
فقارئ الرواية لا بد أن يقرأها بعمق لا سطحية؛ حتى يستطيع الأخذ من أفكارها التربوية، ويعالجها معالجة نفسية يرى فيها أثر الأفعال والكلمات في الأبناء وفي المجتمع من حوله؛ وبذلك يعي كيفية التربية الصحيحة، ويعمد إلى إصلاح المجتمع من بعض الأفكار والتصرفات التي قد تبدو بسيطة، لكن تأثيرها الفعلي في حياة الآخر ليس بهين، وبهذا تؤدي الرواية دورها، وتأخذ قيمتها في تفسير الأبعاد النفسية والدروس التربوية التي لطالما نسمعها.