2024
Adsense
مقالات صحفية

التَّحْنان لِحَنان..!!

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com

خالد طالب نشأ وتربى مع إخوته في أسرة متوسطة الحال، وقد عقدت الأسرة عليه آمالها بوصفه المولود الأول فيها، يهوى الحرية والانطلاق والترحال منذ نعومة أظفاره، وهو يطمح لأن يحقق أهدافه التي رسمها لنفسه، وبنى خطته لذلك، ووضع آلياته للاستقرار خارج قريته التي تبعد عن مدينة القاهرة 100 كم بعد الانتهاء من دراسته، وقد حدد ما يريده خلال سنوات عمره المستقبلية بناء على المعطيات الحياتية التي نشأ فيها داخل أسرته.

بدأت حياة خالد تزدهر يوما بعد يوم، ومع طموح الأسرة بأن يكون ابنهم ذا مكانة ومكان؛ حيث كان من الطلاب المجتهدين منذ الصغر؛ ولأنه كان يستشعر ذلك مع تشجيع أسرته له؛ فقد ارتقى سلم التحدي وإثبات ذاته؛ ليحقق حلم أسرته، وكله ثقة في أن الله لن يخذله.

كبرت أحلامه، وقويت عزيمته نحو تحقيق ما يصبو إليه، وفي خِضم هذه الأحلام التي يَنشدها ويتمناها؛ إذ غشيت أسرته سحائب حزن وألم شديد بسبب معرفتهم بمرض أبيه، ذلك الأب الذي لم يتخيل خالد يوما ما أنه سيكون طريح الفراش في هذا الوقت المبكر؛ حيث كان عمره عندما داهمه المرض بضعا وأربعين، كما يقولون: (في عز شبابه)، ولبث الأب فترة قصيرة في مرضه، وما هي إلا أيام معدودات كان يقضيها بين البيت والمشفى؛ وإذ بلحظات الفراق التي لم يتوقعها خالد أنها ستكون هكذا، فهو لم يتخيل أن والده سيفارقه الآن، لكنها أمانة الله، ولا راد لقضائه.

تجاوز خالد هذه الفترة عقب وفاة أبيه، واستطاع أن يواصل دراسته حتى التحق بإحدى الكليات العلمية، وبدأ حياته في محراب الجامعة، وقلبه تواق لأبيه الذي فارقه في وقت كان يحتاجه فيه كثيرا، فلم يشبع من الحديث معه؛ نظرا لأنه كان منشغلا في عمله الحكومي، وخروجه من الصباح الباكر وعودته عصرا، وكان هذا ديدنه كل يوم إلا في أيام الإجازات التي كان ينتظرها خالد للخروج مع رفاقه في متنزّهات ورحلات متنوعة.

ومرت الأيام مسرعة، وكان هناك مشهد في حلم يراود خالدا من وقت لآخر، ويتكرر معه كما هو؛ حيث يرى أباه من وقت لآخر يدخل عليه في غرفته، ويجلس على سريره، ويتبادلان أطراف الحديث، ويكون سعيدا بما فعله ابنه، وبما حققه، ودائما مبتسم، وكان يتكرر مثل هذا خاصة في أوقات المناسبات الأسرية التي تفتقد الأسرة فيها وجود عائلها، وفي كل مرة كان يتحدث معه قليلا، ثم سرعان ما يستيقظ خالد من نومه وشدة شوقه وحنينه (التَّحْنان) إلى (حَنان) أبيه تزداد بعد كل مرة، وقد اشتد ألم الفراق بينهما في آخر مرة بعدما سأله خالد: لماذا تتركني في كل مرة وتغادر؟ فقال الأب: في هذه المرة لن أتركك، سأكون معك؛ وإذا بهما يحتضنان بعضهما بعضا، والدموع تسيل من أعينهما من شدة الشوق، والعجيب أن خالدا استيقظ هذه المرة، فوجد الدموع في عينيه..!! فبكي أسفا وكله (تَحْنان) إلى (حَنان) حضنه الذي تمنى أن يدوم، وما دام!

حينها أيقنت أن خالدا عنده فراغ عاطفي تجاه أبيه، وأنه يرى في منامه ما لم يستطع فعله معه في حياته، ولما سألته: هل كان أبوك يحتضنك عندما كان موجودا؟ تمتم قليلا..، ثم قال: نادرا ما كان يفعل؛ لذا أحسست أنه يعاني مرارة فراق أبيه، وأن ما يراه في منامه ما هو إلا ترجمة للشوق الشديد (التَّحْنان) تجاه حضن أبيه؛ ليستشعر دفء (حنان) الأبوه الذي فقده معه في حياته.

كثيرا ما تحدث في حياتنا آلام أسرية أكثر مما حدث مع خالد، لكن وصفه لقاء أبيه في منامه وتكراره جعلني أقول بعدما أنهيت مكالمتي معه: أيها الآباء، اقتربوا من أبنائكم، استشعروا مدى وجودهم معكم، احنوا عليهم، لاعبوهم، صاحبوهم، اصبروا عليهم، واحتضنوهم في حياتكم قبل أن يفتقدوكم، فلا تتلاقى أجسادكم، ولا تتعانق قلوبكم، وحينها سيكون تحنانهم إلى حنانكم قد أصبح في طي النسيان هباء منثورا، ولا ينفع الندم ولات ساعة مندم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights