رمضان وذكريات الطفولة
عبد الله بن حمدان الفارسي
أشتم عبق رائحته الزكية تملأ الزمان قبل المكان، تعانق الأرواح قبل الأنفاس، إشراقته تسبق ظهوره، هو آتٍ لا محالة، وندعو الله أن نكون من مستقبليه، وفي الوقت ذاته من ضيوفه، فكل نفس هي شغوفة بالالتقاء والاختلاء به، تتضرع إلى الباري جل جلاله بأن يمن عليها بلقائه، شهر مبارك له من الخيرات ما لا يعد ولا يحصى، له من النفحات والنسمات الإيمانية ما تزهر به خلايا الجسد، وتحيا فيه القلوب الواهنة، لرمضان نسائم خاصة به، ولكل رمضان ذكريات خالدة مخلدة في الأذهان، أيام هذا الشهر ولياليه لها أصداء تصدح في الأعماق، تتورد بالذكر والتهليل، وتلاوة القرآن الكريم، له من ذكريات الطفولة والصبا ممارسات غير اعتيادية؛ من حيث اختلاف النمط الحياتي، والتفرد في السلوكيات التي تطغى عليها وسامة الأخلاق، وبساطة الأشياء المتاحة في تلك الفترة الزمنية، بدءًا من انعدام الصخب اليومي، والانسجام الروحي بين قلوب الناس.
ذكريات الطفولة مع رمضان تبدأ مع من لديه القدرة بمرافقة الآباء إلى الأسواق؛ لشراء ما يلزم للشهر الفضيل، وتحضير كل ما يجعله مميزا عن غيره من بقية شهور السنة الهجرية، رغم بساطة تلك التحضيرات حسب إمكانيات الأسر ومكانتها الاجتماعية، إلا أنها تعني الكثير من الإيجابية لإدخالها البهجة والسرور على النفوس، أيضا التهيؤ والتدريب النفسي التدريجي لصغار السن في كيفية قضاء نهار رمضان وصيامه، ولو بشكل متقطع، سواء أكان ذلك التجزؤ الذي أعنيه بصوم نصف اليوم، أم صوم يوم وترك آخر، حسب القدرة الجسدية وتحملها، لا سيما في أيام الصيف، وتفاخر الصبية فيما بينهم، والتباهي لمن صام أكثر عدد من الأيام، ولا يمنع أيضا التباهي بين من صام أكثر عدد من الساعات، والتسابق على ارتياد المساجد لتأدية الفروض، وقراءة ما تيسر، أو حفظ آيات من الذكر الحكيم، وهناك سلوك متفق عليه بين الأطفال لاكتشاف من نُقِضَ صيامه، وهو الطلب منه بإخراج لسانه، فإن كان لون اللسان يميل للبياض فقد أثبت صدقه، وإذا كان اللون أقرب للاحمرار فذلك دليل إفطاره.
أيضا من ذكريات الطفولة في رمضان إبراز معالم الرجولة المبكرة من الأفعال؛ من حيث إبداء النشاط والحيوية، وعدم التكاسل والتقاعس في تلبية متطلبات الأهل والجيران، ومقاومة تأثيرات الصيام، والقيام بتوصيل ما يجب توصيله للأرحام والجيران من الأكلات، وتبادلها بأصناف أخرى، ولا مانع من التبادل بالنوع نفسه، فإن ذلك يُعد من الأعمال والصدقات التي يؤجر عليها أهل البيت.
وبالرغم من اشتداد درجات الحرارة وارتفاعها في فصل الصيف، فإن الصراع من أجل البقاء، والصمود في وجه الجوع والعطش وإثبات الرجولة لأمر يدعو إلى الافتخار والاعتزاز بعد الانتهاء من الإفطار بتجاوز عقبة ذلك اليوم ، ومن جراء ما تهل على من أكمل صيامه كلمات الثناء والتبريكات والشهادات الشفوية، لربما من فرط ما تسمع وانهمار كلمات الثناء عليك تصاب أُذناك بالصمم.
وكانت مائدة الإفطار طبعا تختلف باختلاف المستوى الاجتماعي للناس، ولكن من هم على شاكلة أغلب فئات المجتمع، فمكونات المائدة لا تتعدى أطباقها أكثر من أربعة أصناف، مع عدم خلوها من التمر أو الرطب، والتمر المهروس الممزوج مع السمن البلدي، وكذلك السمك والعيش (الأرز)، والمهلبية، والكستر بودر، وبعض المعجنات الخفيفة، مثل: اللقيمات والخبز المحلي، والفتة (الثريد)، كانت موائدنا تفتقد للكثير من الأصناف الغذائية التي يكون لها حضور كبير، ولافت للنظر على الموائد الرمضانية في هذه الفترة، والتي للأسف الشديد لا تجد من يمد يده لها في غالب الأوقات، لربما تكون فقط من مبدأ التباهي وتزيين المائدة بها، لتكون فعليا فوق الاحتياج لها، موائد رمضان أيام زمان رغم البساطة في الكم والنوع إلا أنها مقنعة للنفس، ومؤلفة بين القلوب، وجامعة للأقارب والأحباب.
ولصلاة التراويح (القيام) ميزة استثنائية لدينا -نحن الأطفال- منها التسابق للذهاب إلى المسجد لحجز مكان للصلاة فيه، شريطة ألا يكون ذلك المكان لأحد كبار السن، وقد اعتاد الصلاة فيه، وإلا فإن العصا أو الزجر جاهزان لمن لا يتقيد بالعادات والتقاليد ويتجاوز الحدود. أمسيات -رمضان- تتفرد بكثرة الذكر والتهليل، وتجمّع الجيران حول مائدة واحدة مكوناتها من بيوت الجيران، وذلك بعد صلاة التراويح، ويكون فيها الاستعراض مما لذ وطاب، حسب الأصناف والمأكولات المعتادة في تلك الفترة، بمعنى هذا من (صنع يديه وحياة عينيه)، ومثلما للنساء تجمع يكون للرجال أيضا.
والأطفال يكونون أحرارا طلقاء، مستمتعين باللهو، واللعب، والجري بين الأزقة، وممارسة الألعاب الشعبية للأطفال، مع التيقن والاعتقاد بأن ليالي رمضان آمنة خالية من الجن والشياطين، كل هذه الأفعال والسلوكيات والتي تعد ليالي سهر مميزة، بحسب التوقيت الحالي لا تتجاوز العاشرة مساء، بعدها يعود كلٌ منا إلى منزله؛ لأخذ قسط من الراحة لاستعادة النشاط لصلاة التهجد للكبار، وأيضا الصغار من اعتادوا على التقليد الأمثل للقدوة، ومن ثم تناول السحور.
وللسحور خاصية تكمن في إصدار أصوات قرع الطبول، أو صلصلة الحديد، أو ضجيج المؤذنين بالذكر، والتهليل، والتكبير، حين يعتلون المآذن، كل هذه الأفعال كانت تمارس من أجل تنبيه الناس لتناول وجبة السحور، وتهيئتهم لصلاة الفجر، حتى وجبة السحور بالرغم من بساطتها والمقتصرة على العيش (الأرز) مع السمك حسب الرغبة واللبن والتمر، فإن لها ذكريات ومواقف مضحكة، مصدرها ما يقوم به بعض الصغار حينما يُوقظون لتناول وجبة السحور، فتُسرد في النهار، لتكون حديث الساعة للتسلية، وبعض تلك الأحداث تظل ملازمة لمن قام بها لفترات طويلة، ولكنها تظل ذكريات مخلدة، ومغلفة بطابع المودة، تحمل بين طياتها ومعانيها التجمع الفطري والألفة وطيب النفوس وتآخيها.
كل رمضان وأنتم بخير وذكريات جميلة..