الاستثمار في الشهادات أم في المهارات؟
صالح بن محمد خير الكعود
باحث في مرحلة الدكتوراه في تنمية الموارد البشرية
كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية
الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا
في دراسة مثيرة لجامعة “يل” توصلت إلى أن هناك تقديرات بنسبة 65% من الطلاب الملتحقين بالتعليم في المرحلة الابتدائية تفيد بأنهم سوف يعملون بعد تخرجهم في المستقبل بوظائف غير موجودة حالياً. فبعملية حسابية بسيطة:
إن الطالب في مرحلة التعليم الابتدائي يحتاج 6 سنوات إضافية في مرحلة التعليم المتوسط والثانوي، و4 سنوات في التعليم الجامعي (بكالوريوس)، فهو يحتاج إلى 10 سنوات بالحد الأدنى للتخرج، وليكون قادراً على العمل، يضاف إليها 7 سنوات تقريباً في الماجستير والدكتوراه في حال الرغبة بمتابعة الدراسة في مرحلة الدراسات العليا، فإذاً يحتاج الطالب في المرحلة الابتدائية مدة تتراوح بين 10 سنوات إلى 17 سنة ليدخل سوق العمل، على افتراض أن هناك وظيفة تنتظره فور تخرجه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا:
هل ستظل الوظائف نفسها مطلوبة في سوق العمل بعد هذه المدة أو ستتغير؟
تشير الدراسات إلى أن 15% من العاملين حالياً يعملون في وظائف لم تكن موجودة أصلاً عند دخولهم في مرحلة التعليم الابتدائية، ناهيك عن العاملين والموظفين الذين يعملون في تخصصات غير تلك التي تعلموها في أثناء دراستهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التسارع في تغيّر الوظائف أصبح سريعاً جداً؛ نظراً للثورة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التغيرات الهيكلية في الاقتصاد، وأسلوب إنتاج الخدمات والسلع للمستهليكن وترويجها وتقديمها.
إلى ماذا توحي هذه الأرقام والدراسات؟ هل يجب أن نترك التعليم ونذهب باتجاه مراكز التدريب والتأهيل للحصول على المهارات والقدرات لإعداد أنفسنا لنواكب التطورات السريعة في سوق العمل؟ أو أننا ما زلنا بحاجة إلى التعليم في المدارس والجامعات؟ سؤال محير ومثير في آن معاً.
يرى 93% من الأمريكيين الحاصلين على شهادة جامعية أن ثمة أهمية للتعليم المهني الذي حصلوا عليه، بمقابل نسبة 79% منهم يرى أن التعليم الجامعي له أهمية كبيرة لديهم.
تنامت في الفترة الأخيرة الأعمال الحرة لا سيما بعد انتشار “فيروس كورونا” الذي دفع الشركات والمؤسسات التجارية والخدمية إلى اتباع طرق وأساليب مختلفة لإنتاج السلع والخدمات وتسويقها وتقديمها للمجتمع؛ مما تطلب تغييراً جذرياً في طبيعة الوظائف المطلوبة التي أصبحت أكثر اعتماداً على التقنية ومهارات التواصل واستخدام التكنولوجيا الحديثة.
تشير الدراسة أيضاً إلى أن 70 % من الأشخاص الذين يعملون بشكل حرّ Freelance تلقوا دورات تدريبية آخر ستة أشهر.
لتدرك أهمية التغيير الذي حصل في الآونة الأخيرة، أعلنت الشركات الكبيرة أنها لم تعد تطلب شهادات جامعية للعمل لديها، على سبيل المثال أعلنت شركة “APPLE” وشركة “GOOGLE” وشركة “IBM ” أن العمل لديها في مناصب تقنية وإدارية لم يعد يتطلب بالضرورة الحصول على شهادة جامعية. ويضاف إلى هذه الشركات 12 شركة أخرى تم رصد سياساتها التوظيفية مؤخراً التي تغيرت واتجهت نحو الاهتمام بالمهارات على حساب الشهادات.
بل إن هناك شركات ذهبت إلى أبعد من ذلك، مثل شركة “برايس ووتر هاوس كوبر”؛ حيث سمحت بتوظيف خريجي الثانويات في مجالات حساسة مثل المحاسبة والتحليل المالي وتقييم المخاطر، على شرط حصولهم على الدورات التدريبية الملائمة أو إثبات كفاءتهم في أداء هذه الأعمال، بعد أن كانت هذه الوظائف حكراً على خريجي كليات التجارة وإدارة الأعمال لفترة زمنية طويلة.
وفقاً لتقديرات المكتب الفيدرالي الأمريكي لإحصاءات الوظائف، وجد أن هناك سبعة ملايين وظيفة في الولايات المتحدة في شهر ديسمبر للعام الماضي لم تجد من يشغلها؛ وذلك بسبب ما تعانيه البلاد، مما عاد يُعرف “بفجوة المهارات” وتعرف فجوة المهارات:
بالفرق بين المهارات والقدرات التي يتمتع بها العمال والموظفون، وبين تلك التي يحتاجها سوق العمل.
حتى نستشرف المستقبل معاً، لا بد لنا أن ننظر إلى أهم الشركات والمنصات المتخصصة في سوق الأعمال والوظائف، والتي ترصد التغير الحاصل بشكل مستمر.
موقع “لينكد إن” من أهم منصات العمل التي تشكل سوقاً للالتقاء بين الشركات والمؤسسات التي تعرض الوظائف، وبين طالبي الوظائف والأعمال.
أشارت دراسة لموقع “لينكد إن” أولويات سوق العمل تتغير بشكل متسارع وغير مسبوق خلال العقد المقبل؛ حيث تظهر وظائف جديدة تظهر فجأة تتطلب مهارات جديدة لتحتل القمة بشكل مفاجئ؛ مما يجعل المهارات أهم من الشهادات بشكل متزايد. وأكد على هذه النتيجة موقع ” Upwork” المتخصص في العمل الحر على شبكة الإنترنت، الذي أشار إلى أن ال 20 وظيفة الأعلى طلباً على الموقع لا تتطلب بالأساس شهادة محددة على الموقع، بل تقوم على المهارات.
تشير دراسة موقع “لينكد إن” أيضاً إلى أن هناك خمس مهارات “ناعمة” أو شخصية، وخمس مهارات عملية، كانت الأكثر طلباً في الأعوام الماضية. فأما المهارات الشخصية فهي إدارة الوقت، الاعتمادية، التعاون والتنسيق، الإقناع، الإبداع.
وأما المهارات العملية فهي خدمة العملاء، الذكاء الصناعي، التحليل المنطقي، إدارة الجمهور، والتصميم والجرافيك.
مما سبق نلاحظ أن هناك ضغوطاً مستمرة على العاملين والموظفين لتبنّي مبدأ التعليم المستمر، فيجب ألّا نركن إلى المهارات التي لدينا الآن، بدلاً من ذلك يجب تطويرها وتعلّم مهارات جديدة تبقينا في دائرة المنافسة والطلب.
هناك سباق محموم نلحظه الآن بين تطور الاقتصاد وما يلحق به من الأدوات والتقنيات التي تتغير بصورة أسرع وباستمرار، وبين سرعة التعليم وبرامج التدريب؛ حيث تميل الكفة دائماً للتغيرات في الاقتصاد.
وبرأينا: تظل برامج التدريب والتأهيل الأسرع مقارنة بالتعليم، والأكثر مرونة للاستجابة للتغيرات الحاصلة في الاقتصاد وسوق العمل؛ نظراً لقصر برامجها، وارتفاع فعالية مخرجاتها، وانخفاض تكلفتها، ونظراً لإمكانية تقديمها بصور مرنة إلكترونياً.
يجب على الحكومات العربية وجميع المؤسسات والشركات وحتى على مستوى الأفراد إيلاء الاهتمام بالتعليم المهني اهتماماً كبيراً، والتوسع فيه كرديف للتعليم الجامعي، وتبنّي خطط استراتيجية ومرنة لمواكبة التطورات المتسارعة في سوق العمل، لنحصل على مخرجات مؤهلة مدربة بأسرع وقت، وأقل تكلفة بما يخدم أهدافنا التنموية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والبشري.