التناشز الاجتماعي و المرأة العربية
شهاب أحمد
إن المرأة العربية بوجه عام تعاني من التناشـز الاجتماعي أكثر مما يعاني الرجل، وذلك لأن القيم الاجتماعية التي تحيط بالمرأة أكثر تشدداً وصرامة من القيم المحيطة بالرجل، هي إن المرأة العربية أخذ وضعها الاجتماعي يتغير تدريجياً منذ بداية تشكيل الدول العربية عقب الحرب العالمية الأولى، فهـي بدأت تدخـل المدارس وتتعلم، واتخذت السفور الحديث، ودخلت مجال الوظيفة والعمل خارج البيت، والمشكلة في هذا التغير الكبير أنه يصحبه تغيّر مماثل في القيم والتقاليد التي تخص المرأة.
إن المرأة العربية بعـد أن تعلمت وخرجت من البيت صارت تطمح أن تكـون كالمـرأة الغربيـة فـي تحررها وفي اختيار زوجها وفي اتخاذ المهنة التي ترغب فيها، ولكن القيم الاجتماعية الصارمة التي كانت سائدة في الماضي لم تختفي دفعـة واحـدة، وما زال الكثيرون من الناس يتمسكون بها، فماذا تفعل المرأة إزاء ذلك؟! .
يمكـن القـول إن المرأة العربية الحديثة تقف بين تيارين متعارضين: فتيار الحضارة الحديثة يدفع بها نحو الأمام، بينما تيـار القيم القديمـة يجرها إلى الخلف. وما أكثر الضحايا من النسوة اللواتي وقعن من جراء الصراع بين هذين التيارين.
منذ عهد قريب تحدثت إلى رجل محافظ وقلت له: ماذا تفعل لو رأيت ابنتك في جامعة ما، وهي تلبس (الأزياء الحديثة )، وتذهب إلى الجامعة مع الرجال والبنات؟ فأجابني غاضباً:« أقتلها ! » .. فقلت له إن أختك الآن موظفة وهي سافرة في دائرتها تعامل المراجعين كالرجل، ولو كنا قد ذكرنا ذلك لأبيك المرحوم قبل أربعين سنة لأجابنا مثل جوابك «أقتلها !»، فسكت الرجل ولم يدري ما يقول!.
إن التيار الحضاري الحديث تيار ساحق لا مفر منه، والذين يقاومونه اليوم يرضخون له غدا. إني قرأت ما حدث وما جرى من جدل عنيف في عام (1924) بين دعاة السفور والحجاب فـي العراق، فكان دعاة الحجاب يعتبرون السفور مروقاً عن الدين وفساداً في الأخلاق وعمالة للاستعمار، وما شابه ذلك، ثم مرت الأيام فوجدنا بنـات دعـاة الحجاب سافرات، وقد دخلن الكليات المختلطة وصرن موظفات، ولم يستطع الآباء أن يقولوا لهن شيئاً. مـن طبيعة التغير الاجتماعـي أنـه لا يحدث على وتيرة واحدة في جميع نواحي المجتمع، ففي بعض نواحي المجتمع يكون التغير سريعاً كالملابس والمساكن والمهن ووسائل التعليم والثقافة، بينما يكون التغير بطيئاً في النواحي الأخـرى كالعادات والمعتقدات والتقاليد والقيـم، وهـذا يـؤدي إلى التناشـز الاجتماعي، ولا حاجة بنا إلى القول إن هذا التناشز الاجتماعي لا ينحصر في مجتمعنا وحده، بل هو يشمل جميع مجتمعات العالم، وكلما كان التغير في المجتمع أسرع كان التناشز فيه أشد، وتلك سنة الله في خلقه في كل زمان ومكان .
التناشز في الزواج مشكلةٌ، ففي الماضي يقوم على أساس «الخطبة»، وهو في الحضارة الحديثة يقوم على أساس «الحب» وقد أصبحت الفتاة العربية الآن في الغالب ذات حدين، فهـي بعـد أن تعلمت بدأت تطمح في إن تختار زوجها على أساس الحب، بينما يريد أهلها أن يزوجوها على طريقة الخطبة. كانت المرأة في الماضي في الغالب لا يجوز لها أن تبدي رأيها بصراحة في اختيار زوجها، فإن أهلهـا هم الذين يفاوضون في أمر زواجها ويساومون على مقدار مهرها، وليس لها إلا أن تقول « نعم » عند عقد النكاح، وإذا امتنعت عن النطق بهذه الكلمة أحاطت بها التهم ونالت العقاب الشديد من ولي أمرها.
ومما أتذكره من فترة سابقة أن فتاة امتنعت عن النطق بكلمة «نعم » في أثناء عقد النكاح ، فانهال عليها أبوها بالضرب المبرح على مسمع من الحاضرين وصرخ فيها متهماً إياها بأنها «عاشقة»، ولا حاجة بنا إلى القول إن تهمة « العشق » كانت أبشع تهمة توجه إلى الفتاة تلك الأيام، وهي على النقيض مما اعتاد عليه الناس في الغرب، إذ أن الحب هو الأساس الذي يقوم عليه الزواج هناك كما أشرنا إليه آنفاً.
اتضح الآن علمياً أن الحب لا يصلـح وحـده لأن يكـون أساساً للزواج الناجح، فإن له عيوبه كمثل ما كان للخطبة عيوبها، ولكن المرأة الحديثة في دولنا العربية لا تعرف ذلك، بل هي: تحاول تقليد المرأة الغربية في الزواج القائم على الحب، وتنفر من زواج الخطبة، وسوف يأتي عليها يوم قريب أو بعيد تدرك فيه أن زواج الحب هو نفسه لا يخلو من عيوب خاصة به. إن كثير من الشباب العربي الآن هو كالشابات العربيات يرغبن في اختيار زوجاتهم على أساس الحب، ولكنه في أعماق نفسه يحتقر الفتاة التي تستجيب لغرامياته، لذلك لا يرغب أن يجعلها زوجة له وأماً لأولاده، فتراه يتحرش بالفتيات ويحاول تبادل الغـرام مـع إحداهـن، غير أنه لا يكاد يجدها قد استجابت له حتى يشعر بأنها امرأة غير «شريفة» وأنها لا تستحق أن تكون زوجة له «على سنة الله ورسوله»، لذلك تجد إن التناشز الاجتماعي كامن في أعماق هذا الشاب، فهو يقلد الشاب الغربي في الغرام، ولكنه في الزواج يريد تقليد أبيه وأعمامه وأخواله، إنه في غرامياته: « دون جوان » وفي زواجه: « حاج يوسف»، لذلك أصبحت ظاهرة التحرش بالنساء واسعة الانتشار على عكس المجتمعات المتقدمة التي اعتادت على الاختلاط بين الجنسين، فالشـاب هنـاك لا يجد حاجة للتحرش بالفتيات لأنه يعيش معهن منذ صباه الباكر، فيخالطهن في المدرسة ويرافقهن في السفرات ويتعاطى الغرام معهن علناً دون أن يقول له أحد «لماذا ؟» أو يوبخه على ما يفعل …
لذلك فإن التحرش بالفتيات في الواقع هو وسيلة للتفتيش عن الجوع الجنسي الذي يشعر به الرجل في المجتمع العربي. قد يسأل سائل: إذا كان التحرش يكثر في المجتمع العربي كما تقول، فكيف تفسر ازدياد ظاهرة التحرش في مجتمعنا الآن مع العلم أن المرأة فيه قد أزاحت الحجاب عنها وصارت كالمرأة الغربية تغنجاً وتبرجاً ؟ ! . للجـواب عـن هـذا السؤال يجـب أن نعيد ذكر ما ذكرناه سابقاً من حيث قد التناشز الاجتماعي الذي تعاني منه المرأة العربية في المرحلة الراهنة، فهي خرجت من البيت وتبرجت ولكن العادات والقيم الاجتماعية القديمة ما زالت باقيـة فـي أعماق الكثيريـن مـن الناس حولهـا، وبعبارة أخرى: إن الحجاب قد اختفى ظاهراً غير أنه ما زال كامناً في أعماق النفوس.