التَّعايُش السِّلْمِيّ فِي النَّحوِ الْعَرَبِيّ (3) اللام الـمُزَحْلَقَة
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
أذكر يوما ما منذ أكثر من عشر سنوات كنت في مؤتمر في إحدى جامعات ماليزيا، وقد قدمت بحثا يتناول “دراسة اللام المزحلقة في القرآن الكريم”، وفي أثناء تقديمه؛ فوجئت بامتلاء القاعة بالحضور للاستماع، وبعد تقديم البحث أخبرني كثيرون أنهم حضروا من أجل معرفة معنى “اللام المزحلقة”؛ وتبادلنا أطراف الحديث عنها، وكان لقاء طيبا.
ما اللام الـمُزَحْلَقة؟
قيل: إن اللام المزحلقة هي في الأصل لام الابتداء تقع بعد إنّ المكسورة، وقيل كذلك: إنها لام توكيد، وقيل أيضا: إنها جواب لقسم محذوف، وقيل غير ذلك، ولكلّ أدلته، ويترجح أنها لام ابتداء تفيد معنى التأكيد، وفي سبب تسميتها بهذا يقول النحاة:”تُسمَّى اللام الداخلة على الخبر اللام المزحلقة؛ لأنها كانت في الأصل داخلة على المبتدأ، ثم زُحْلِقت عنه إلى الخبر بعد أن دخلت عليها “إنَّ” كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين وهي لها الصدارة أيضا، وكلاهما يفيد التأكيد، فزحلقوا اللام إلى الخبر، وهذه اللام تكون مفتوحة دائما، وهي حرف للتوكيد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب”. ( د. إبراهيم بركات: 2007).
مدخول اللام الـمُزَحْلَقة:
تدخل اللام المزحلقة بعد إنّ المكسورة على ما يأتي:
1- الخبر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}. ( سورة إبراهيم: من الآية 39).
2- الاسم بشرط التأخر عن الخبر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}.(سورة النازعات: 26).
3- الضمير إذا كان للفصل، نحو قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.(سورة آل عمران: 62).
وهذه أشهر المواضع التي تستخدم فيها اللام الـمُزَحْلَقة ، وهناك مواضع أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
فائدتها:
” اللام الـمُزَحْلَقة عندما توجد في الجملة الاسمية تفيد توكيد مضمون الجملة المثبتة، وإزالة الشك عن معناها المثبت؛ ولذلك لا تدخل على حرف النفي، ولا فعل النفي، ولا على المنفي بأحدهما، ولكنها تدخل على الاسم المفيد لمعنى النفي، مثل: إن المنافق لغير مأمون الصداقة”. (ابن هشام: 1992 بتصرف).
وهناك أحكام للام المزحلقة ليس المجال هنا يتسع لذكرها، وقد رأينا من خلال الشواهد السابقة كيف أنها أدّت دورا مهما في بناء التركيب اللغوي، ففي الأصل كانت اللام داخلة على المبتدأ، ولما جاءت “إنّ” لتدخل على المبتدأ، لم تستطع اللام البقاء في موضعها قبل المبتدأ؛ فزحلقت إلى الخبر، لتترك موقعها لإنّ.
وتتجلّى المعايشة السلمية في هذا التركيب اللغوي بين اللام وإنّ والاسم والخبر، كما في قولنا: (إنّ محمدًا لناجحٌ) فيما يأتي:
• أصل التركيب قبل دخول إنَّ (لمحمدٌ ناجحٌ)، ولا إشكالية هنا، فاللام للابتداء، وتفيد التوكيد، وداخلة على المبتدأ.
• عندما أرادت إنَّ الدخول على المبتدأ، وفيه اللام وجدت إشكاليتين: الأولى: وجود اللام، والثانية: لابد من تغيير مسمى المبتدأ.
وقد استأذنت إنّ في الدخول؛ فكان التعايش والتفاهم والحب متمثلا في قبول اللام الانتقال والتزحلق من المبتدأ إلى الخبر، مع يقينها أنّ إفادة التأكيد سيناله المبتدأ أكثر من خلال دخول إنّ، وتغيير مسمّاه، ولما تزحلقت منه؛ أصبح المبتدأ مؤكَّدا بإنّ، واكتسب وظيفة جديدة مسمّاها (اسم إنّ) بدلا من كونه مبتدأ، وسُرّ بذلك؛ لما رآه من حسن تفاهم بين إنّ واللام.
• قدمت اللام نموذجا للمحافظة على ما يسمى بـ” الموقعية” وتقديرها؛ وذلك من خلال ترك موقعها لإنّ، وانتقالها إلى موقع آخر، وهي راضية غير متمسكة به، وتعلم أنّ غيرها قد يفيد أكثر في موقع جديد، ومع مُسمّى متجدد.
• حرصت إنّ على مراعاة مشاعر اللام؛ فأكسبتها من دخولها على الخبر أنْ يبقى مدخولها مرفوعا؛ فقد أثرت في المبتدأ وإعرابه؛ فتغير مسمّاه من كونه مبتدأ مرفوعا إلى اسم إنَّ منصوب، ولم تؤثر في الخبر؛ فبقي كما هو مرفوعا، وفي هذا عين الإيثار من قِبَل إنّ، فلا يعنيها امتلاك كل شيء وتغييره، وإنما كلٌّ أخذ دوره، وتقلد وظيفته الجديدة، وفي هذا تقديم اطمئنان من قبل التجديد الذي حدث في بناء التركيب بعد دخول إنّ، ولم تكتف إنّ بهذا، بل ذهبت أبعد من ذلك؛ حيث سمحت للام بالدخول على المبتدأ مرة ثانية، وهي-إنّ- موجودة، ولكن بشرط أنْ يتأخر المبتدأ بعد الخبر مع المحافظة على أنه اكتسب مسمّى جديدا، وهو اسم إنّ.
وما أحوجنا إلى تلك العلاقات السياقية التي تحدث بين الكلمات! فعندما نقدر بعضنا بعضا، ونتبادل الآحترام في مواقعنا، ونُقدم المصالح العليا دون النظر إلى ما يعلق بالنفوس من أشياء؛ فإننا -لا محالة- نسير في الطريق الصحيح الذي نَنشُده جميعا لبناء أوطاننا، والارتقاء بها، وأننا بهذه العلاقات سنكون لبنات في تحقيق رقيها وبناء نهضتها وحضارتها.
ما أجمل اللام المزحلقة حين احترمت موقعية إنّ ومسمى المبتدأ الجديد! وما أعظم مراعاة مشاعر اللام من قِبَل إنّ بعد تزحلقها من مكانها وتقلدها وظيفة جديدة في الخبر، وسماحها للام بزيارة المبتدأ، والدخول عليه بشروط قبلتها اللام؛ فقويت العلاقة بينهما! وما أحوجنا إلى تلك المعاني! وللتعايش بقية..