دهاليز الخيال
عبد الله بن حمدان الفارسي
يشاكل صوتها العذب ترانيم القداسة في أعياد العشاق، كنت أشاكلها بعفوية المشتاق حين ترتجف آهاتي شوقا إليها، ويجذبني طيفها في لحظات السحَر، حين تسهو الأعين، وتغفو القلوب، أشدّ ركّاب الفكر بحثاً عنها، أستفزّ صمتها النائم على ضفاف شواطئ النسيان، أوقظ فيه دفء الشتاء المفقود؛ خوفاً من تجمّد الكلمات العذبة على لسانها، ولدرء انتحار الذكريات على مقاصل إهمالها، أبحث عن صندوق البريد في طرقات مجهولة الاتجاهات، متخمة بزوايا معتمة، لعلّه -الصندوق- يحتفظ لي برسالة منها زمزمية المفردات، معتّقة النغمات، سرمدية النفحات، تزهر ما يكاد يجفّ ويذبل.
يا صوتها الهتان برعود الفرح، كم ناديتك لتروي ما تبقى من أمل!
أيتها الكامنة، هناك وأنتِ قابعة في داخلي، لمَ لا تقاومين رياح التردد والانهزام؟ ولمَ لا تكسرين حواجزه المترهّلة؟ فلم يبقَ منها سوى خوفك القديم، المعلق على أسوار حارتنا القديمة، رحل منها كل شيء إلا بقايا لأشياء لا تُذكر، متناثرة هنا وهناك، واحمرار وجنتيك، لا تناظرين عقارب ساعة الزمن، متثاقلة الخُطى، فهي من يجلب الشيخوخة للحظات الفرح، تمرّدي على ما كان، وتغلّبي على عناوين الأعراف والتقاليد المبطلة، لا تجعليها تعبث بمناجم قلبك الذهبية، ولا توليها زمام قيادته، فما قصم ظهر إرادتي ولا بدّد أحلامي سوى انكسار عينكِ حين لقيانا، ذلك الحياء القاسي البليد عندما يستبد ويخيّم على ساحات القلوب؛ يفقدها لذة الصفاء وبهجة اللقاء.
عودي إلى تلك البقعة المباركة في جسدي وجددي ولاءكِ وانتماء روحك إليها، فشغف قلبي إليك لم يبرح مكانه، فما زال يهيم في فيافي الإخلاص لك، تحت زخات الانتظار ونظري لا يشيح عن الطريق، أرتجف من حبات البَرَد الكسولة وهي تتساقط مع نبضات قلبي الخجولة؛ لتسقيها شوقاً وتكسوها ودّاً، عودي ببراءة الأطفال ممزوجة بحكمة العقلاء، داعبِي شتلات الورد في قلبي، املئي ما عبث به الزمن حباً وغراماً.
تذكرين نظراتنا التي لم نكن نعرف لها معنىً، تذكرين تبعثر الكلمات حين نلتقي مصادفة، وتضمّنا جدران الأزقّة في الحارات.
كنت أتباهى أمام الأصدقاء بحفظ أشعار الحمداني والمتنبي، وأترنم طرباً بفلسفة أم كلثوم في الغناء، وأتفاخر بإجادتي صوت الأطرش المبحوح، ولكن عندما تطأ نظراتي باحة عينيك تتملكني تأتأة الأطفال، وتهرب الأحرف من لساني وأٌصاب بداء بعثرة الأفكار المترنحة، وارتشاف جرعات الارتباك حتى الثمالة.
والآن وبعد أن تغيرت ملامح المكان، وأسدل الستار على وجه الزمان، وأصبحت مجلدات الأعراف والتقاليد حُبلى باللاءات الاستبدادية؛ استجمعتُ ولملمتُ ما كان مفقوداً.
عودي إلى ما ليس له وجود، ودعيني أبحث عنك شوقاً في مجرّات اللاوجود، فلعلّي أجدك في تلك الطرقات المرسومة فقط على صحفات مخيلتي.