المعطف
عبدالله بن حمدان الفارسي
كلما اقترب موعد دخول فصل الشتاء تغلق نوافذ ما سبقه، وتفتح أبوابه؛ لينتعش قلبي فرحا، وينتشي طربا، وتترقب كل الحواس لدي وتيرة خطواته التي يختلف وقعها بين آن وآخر، فأحيانا تجدها مسرعة الخطى؛ لتشعرك بأنه سوف يقتحم المكان والزمان بعنفوان الفاتح، وفي حين آخر تكاد تنعدم أنفاسه وعبقه، وتخلو الأرض من رائحته، وتنذوي وجنة الزمان لتثاقل حركته وبطئها؛ ليولد لدى عشاقه قنوط البائس، وإحساس اليائس من وهن قوته.
للشتاء حكاية في فترة مضت، صنفتها على أنها أسطورة شعبية تتوارثها نبضات قلبي عبر محطات السنة بانتظار الاحتفاء به، ولذلك حدوتة سأذكرها لاحقا، ولهذا الفصل مأثورات تتعلق به، منها:(النار فاكهة الشتاء؛ لحاجة الناس للدفء بها، قاهر الفقراء)؛ لأن غالبية من هم يقبعون تحت خط الفقر – وأنا منهم – لا تسعدهم كثيرا عيادته الموسمية، لا سيما عندما تكون غزواته بكافة قواته وعتاده، فإن من هم على شاكلتي لا تتوفر لديهم الطاقة لمواجهته حين يدك الوقت دكا دكا، ونظرا لما يتطلب حلول الشتاء من استعدادات خاصة، فإن بعضنا، ولضيق ذات اليد؛ لعدم القدرة على توفير القليل من المستلزمات، كالمأوى للوقاية من قسوته، والمأكل لطول لياليه القارسة، وما تتطلب من جرعات غذائية، وكماليات أخرى ليست في متناول الكل من حيث الامتلاك الكلي، أو توفير ما تيسر منها، وبالرغم من فرض قسوته وجبروته في بعض الأحيان، وما يسببه من معاناة؛ إلا أن له استثنائية لدي من حيث إجراءات ترحيب المضيف للضيف، وإكرامه بما يليق ومكانته، وطقوس أخرى أمارسها تجعلني في أعين قرنائي محط أنظارهم، أجل، كنت أشعر بتلك النظرات منهم، وهي تلاحقني، يقينا ليست كلها نظرات إعجاب لشخصي، فمنها متوهج ومغلف بسهام ملتهبة تكاد من حممها تصهر صاحبها وتكويه من حر جمرها، ومع ذلك كنت لا أبالي بها، أمشي واثق الخطوة ملكا.
حكاية انتشائي وابتهاجي بزيارة فصل الشتاء بدأت بعلاقة سطحية بزميل لي في المدرسة متقدما علي، حسب ما توحي لي ذاكرتي الآن، بصفين دراسيين، هذا الزميل الذي ارتقت علاقتي به فيما بعد لمستوى ما بين الزمالة والصداقة، وكادت تكون أعلى شأنا لولا انتقالي لمدرسة أخرى في حي آخر، وانقطاع سبل التواصل بيننا، كان ذلك لانتقالنا إلى منزل يتناسب مع وضع والدي وإمكانياته المادية المتواضعة، وكان ذلك الذي أحدثكم عنه يتمتع بوسامة المظهر، وأناقة الملبس، وحسن الخلق، ينتمي لعائلة دون البرجوازية بقليل، إن جاز إطلاق هذا الوصف عليها، وهو وحيد والديه؛ لذا كان يحظى بحظوة الأسد من ناحية الرعاية والاهتمام، والإفراط نوعا ما في تلبية احتياجاته، ونظرا لكل ما ذكرت؛ انعكس ذلك على نمط حياته في الرقة، ونعومة التعامل، ولباقة التحدث، والابتعاد عن كل ما يلوث بيئتيه الداخلية والخارجية.
وفي يوم ما، وأنا أهم بدخول المعترك اليومي المعتاد، بالانغماس في معمعة طابور لا صلة له بالاستقامة والنظام، من أجل الفوز بوجبة غذائية من المقصف المدرسي تساعدني على تنشيط قواي التي أنهكها الجوع، وتنقذني من براثن الشتات الذهني والخمول الجسدي، كل هذا ليس لأنني أملك مالا يخولني شراء تلك الوجبة التي يقال: إنها صحية! بل ببطاقة منح وجبات مدرسية تُعطى لذوي مستحقي الضمان الاجتماعي، أو لمن ينتمي للأسر المعسرة، وإذ أنا في حالتي تلك؛ وقعت عيناي عليه – زميلي في المدرسة – وهو في موقف مسلوب الإرادة عديم الحيلة، يفتقد القدرة التي تؤهله لاجتياز تلك الأفواج البشرية؛ للحصول على مراده، وحينها تكالبت على عقلي تساؤلات، وتداخلت معها إجابات لم أستوعبها في وقتها إلا حين توسعت أبواب المعرفة لدي لاحقا، ومنها أن بعضهم مهما توفرت لديه كافة احتياجاته تظل الرغبة جامحة لديه للحصول على ما لدى الآخر، وإن كانت تلك أدنى مما يمتلكه، أيضا من المصادمات التي اجتاحت ذاتي ملامحه الأنيقة ذات التمسكن والاستعطاف المصاحبة لهمس خفي داعبت مكامن النخوة والشهامة وصفاتهما بداخلي، يومها كان الجو شتويا شديد البرودة، والسماء شبه ملبدة بالغيوم السوداوية؛ حيث احتوت وحجبت الشمس من أن تتباهى بكامل محاسنها، دون تردد ذهبت إليه؛ لأعرض عليه خدماتي، ولأن من هم على سجيته؛ شعرت بهواجس الخوف فيه، والتردد من التعامل معي، وخلال لحظات الحوار الصامت سرعان ما أدخل يده في جيبه؛ ليخرج منه مبلغا، وكأن به يعرف مسبقا عدده، ومده لي، وطلب مني مساعدته في شراء بعض الوجبات الخفيفة من المقصف، وبدوري كنت كالذي لم يصدق وقْع الحدث السريع عليه، وفي لمحة بصر، وبحركة عنترية؛ وجدت نفسي أمام نافذة المقصف محققا رغبة زميلي وطلبه، والعودة إليه، وكأني قد حققت إنجاز الفاتح باقتحام إحدى القلاع شديدة المناعة، وفي أثناء تسلمه وجبته رفض أخذ ما تبقى من مبلغ له مني، وحال لسانه وعينيه ينطقان، كلٌ حسب لغته، بالشكر والعرفان؛ على ما قمت به من مساعدة له، وكان الإصرار هو لغة التحدي بيننا، هو يلح بأخذي ما تبقى من المبلغ، وأنا أرفض أخذه حتى انتصرت إرادتي، بعدم أخذ شيء مقابل شهامتي ومروءتي، وافترقنا بعدها على إيماءة رأس من كلينا، ولكن قبل أن يشيح كلٌ منا وجهه عن الآخر، أسرتني ابتسامته الخفيفة المهذبة، ولم أفهم ما كان مستترا خلفها إلا بعد أن تباعدنا، حين أشار إلي أحد زملائي في الصف وأنا أقترب منه، بأن أحد كمي معطفي قد تمزق جزء منه؛ نتيجة الاعتراك على ما يسمى الوجبة الصحية، كان تأثري شديدا من جراء ما حدث لمعطفي بالرغم من تهتر قماشه وشحوب لونه، وكان حزني يتلخص لعدم وجود غيره معي، وفي كيفية مواجهة والدي حين يعلم بتمزق المعطف، يا لها من مأساة ومعاناة سترافقني طيلة أيام الشتاء! لا سيما حين يحتدم ويشتد غضبه، وفي الوقت ذاته أتناسى كل ذلك عندما أتذكر أن للمواقف رجالا، لا تبالي بنوعية ما تتلقى من خسائر ولا بمقدارها إن كانت في سبيل عمل إنساني نبيل، مهما صغر حجمه، تحملت يومها زجر الوالد وغضبه علي، دون أن أشرح له الأسباب التي أدت لتلف عالي المكانة وغالي الأثمان -المعطف- وتركته يعيش مع ظنونه أني دخلت في شجار مع شخص ما.
في بداية اليوم التالي، وأنا على وشك النزول من حافلة نقل الطلبة، وإذا بالطالب ذاته الذي ساعدته أمس يقف بجانب رجل متوسط القامة، أشهب الشعر، ذي لحية، مهذبة ملامحه، تندرج تحت ما يسمى(بالهيبة)، وإذا بالطالب يشير بإصبعه إلي، والرجل يدعوني باسمي إيحاءً لي بالتوجه نحوهما، وما إن دنوت منهما إلا والرجل يمد يده اليمنى لمصافحتي، ويشكرني، ويثني على ما قمت به يوم أمس لولده، وفي يده الأخرى كيس طالبا مني أن آخذه منه، وكانت وقائع هذا الحدث أمام جمع من الطلبة الذين حالفهم الحظ؛ ليكونوا شاهدي عصرٍ على تلك اللحظة الاستثنائية، والتي بسببها غيرت نوعا ما من نمط مسيرة حياتي وسلوكياتها، ولو بشكل جزئي، وأيقنت بأن ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والخير لا يجلب إلا الخير، ولا تستصغر من المعروف شيئا.
كان داخل الكيس معطفٌ جميل، حسب اعتقادي يعادل ثمنه نصف دخل والدي الشهري، هل عرفتم الآن ما سر سعادتي وبهجتي، ونظرات الآخرين لي في فصل الشتاء، خاصة من هم في مستواي الاجتماعي؟! إنه (المعطف).