2024
Adsense
مقالات صحفية

احفظ مكانتك؛ ليبقى الأثر

خلفان بن ناصر الرواحي

 

هكذا تمر بنا الدنيا، وكأنها تقول لنا: “احفظ مكانتك؛ ليبقى الأثر”، فما نراه في واقعنا المعاصر في حياتنا الاجتماعية يتطلب منا مراجعة أنفسنا في تصرفاتنا، وتعاملاتنا، وأعمالنا الخاصة والعامة؛ وذلك لما يحفظ ماء الوجه في حياتنا، وبقاء الأثر الطيب لنا بعد رحيلنا متى حانت ساعة الفراق؛ حيث نلحظ تساقط بعض ورقات شجرة الأثر الطيب، ونخشى تيبسها، واجتثاثها؛ لما نراه من تغيرات في سلوك البشر قد تطمس بعض المعالم.

لقد فقدنا عددًا من الأحبة والأصدقاء، والأعزة الكرام، والمبذل ماله وحاله في سبيل الخير الذين خلدوا أثرًا عظيمًا في نفوس محبيهم بعد فراقهم، ولن يستطيع قلمي إحصاءهم، أو إعداد أسمائهم خشية الإحراج، أو سقوطها سهوًا، ولكن سنقف على بعض الإضاءات والقواسم المشتركة التي ميّزتهم عن غيرهم في شغل المكانة الخاصة في نفوس أحبابهم ومجتمعهم، وبقاء أثرهم وذكرهم مخلدًا، وصورتهم ناصعة النقاء في أذهان محبيهم على مر الزمن، وربما سوف تتناقلها الأجيال.

لقد عمل أمثال هؤلاء على غرس بذور المحبة في قلوب مَنْ حولهم، صغيرهم وكبيرهم، فقيرهم وغنيهم، قريبهم وبعيدهم، وحافظوا على العهد الذي وثّقوه برباط الإخلاص؛ لتنمو تلك البذرة بماء اليقين والتفاني، والبذل والتضحية والعطاء، فجنوا ثمرة الحب من قلوب تبادلهم نفس الشعور في الصدق والوفاء والعرفان والتقدير لهم.

لقد عمّق جذور تلك الشجرة أخلاقهم الرفيقة، ومعاملاتهم الراقية التي سمت بها نفوسهم الطاهرة، فالتواضع والاحترام للصغير والكبير، والفقير والغني، والقريب والبعيد؛ ارتفع به قدرهم ومكانتهم، وتبوءوا درجاتهم العالية في السمو والتقدير والاحترام، وبتضحياتهم وإيثاراتهم وتفانيهم، وصفاء نفوسهم من الأنانية والكبر والعجب والغطرسة وحب النفوذ؛ نالوا نصيبهم في قلوب محبيهم، وتفردوا بمكانتهم المرموقة، وبتجنبهم الخوض في أعراض الناس، وما لا يعنيهم، وبعدهم عن اللوم والعتاب المبالغ فيه، وبتحليهم بالعفو والصفح الجميل؛ جعل قلوب الناس تميل، وتهوى إليهم طواعية؛ فنالوا رضا الله، ورضا الناس.

فكم من الذين رحلوا عنا وتركوا لنا بصمة عظيمة! لم تخلُ من الكلمة الطيبة المتميزة والمنتقاة بعناية فائقة تفوقت على كلمات المتلقي لها، واستسلمت آذان الناس لسماعها طواعية؛ وذلك كله من حرصهم الشديد بمراعات المشاعر، وعدم التعدي والمساس بأحاسيسهم، متوشحة ببشاشة الوجه، وحيوية الابتسامة الساحرة الآسرة لقلوب الآخرين وصدقها، فلا تفارق تلك الصفات والمشاعر محيّاهم حتى وإن تصادمت قلوبهم بمواقف تعتصر ألمًا.

إنَّ أمثال هؤلاء لم يكتفوا بذلك؛ بل تجاوزوا حدود التضحية والإبداع، فكم من أمثالهم كان الإبداع في التعامل حليفهم للتعايش مع مختلف شرائح المجتمع! وتعددت لديهم مفاتيح أقفال القلوب بلا تكلف، ولم يكن هدفهم أن يكونوا محور الاهتمام بالآخرين من باب المجاملة، والكبرياء، والسمعة التي يصحبها رياء العمل، فكانوا هم محور اهتمام المشاركة الفاعلة في الأفراح والأتراح، وحرصهم على التواصل قدر المستطاع؛ للوصول برسالتهم السامية مع الآخرين، ولم يكن شعارهم وديدنهم حب الذات، بل كانوا نِعْمَ المعين، ونعم الصاحب في الشدة والرخاء.

فليبحث كل منا عن بصيص أمله؛ لبقاء بصمته وأثره، سواءً في أسرته، أو مجتمعه، أو بيئة عمله، وليترك أثرًا خالدًا؛ ليضيء للآخرين طريقهم، ولينشر الخير بالهمة، والتعاون، والتكاتف؛ لرقي المجتمعات والأوطان وتطورهما، ولنستلهم القدوة ممن رحلوا وكانوا شموعًا وضاءة تحترق؛ لتنير للآخرين دروبهم، وتسهل أمورهم، فلقد رحل المخلصون وتركوا بصمة في قلوبنا، وبقي الذكر الجميل والعمل الصالح، وإن كانوا رحلوا عنا بأجسادهم وأرواحهم؛ إلا أنهم واقعًا لم يرحلوا، وسيخلد أثرهم وذكرهم يتجدد.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights