الأنفاس الأخيرة
إلهام السيابي
احتضنت أمل ابنها محمد ذي العشر سنوات برفق وحنان، وهي تبكي بحرقة صامتة، تنظر لعينيه المغلقتين بكل هدوء وراحه، وكأنه مستغرق في نوم عميق لا يريد أن يوقظه أحد، عصرته بين يديها وهي تقول له:
( (إنالله وإنا إليه راجعون))
اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها..
فأحست بيدين تُرَبِّتان على كتفها بحنان وقوة وهي تهمس: علينا أخذه يا أمل، فالرجال ينتظرون لأخذ جثم..! توقفت هند عن إكمال كلمتها وهي تبكي، ولكن أمل التقطت أنفاسها وحمدت ربها على كل شيء، فهو المعطي وهو الآخذ، هوالواهب وهو المحيي والمميت. أمهليني يا هند، فوداعه صعب ورحيله يفطر القلب، ثم رفعت يدها بالدعاء الطويل المبكي الذي استطاعت أن تبث عبره كل لواعج الحب والألم، وتتذكر معها لحظات حملها بمحمد٠ كان خفيفا لم تشعر بأي صعوبة أو غثيان أو تعب، حتى في لحظات الولادة كانت سهلة ييسرة، فسبحان الله استطاعت أن تعيش معه كل لحظات طفولته؛ لأنها لم تكن تحب ترك طفلها مع أحد، ليس لعدم اطمئنانها لمن حولها، وإنما لحبها أن تقوم بكل واجباتها كأم لطفلها الوحيد، فزوجها وأبو طفلها قد غادرهما إثر صراع مع مرض السرطان، فرسمت كل حياتها حول محمد، كان لها ضحكة الحياة بعد فتورها، وابتسامته هي البلسم الذي ينسيها قسوة الحياة. ابتسمت أمل وهي تضع قبلة الوداع الأخيرة على جبين طفلها النائم، وهي تقول: اللهم لك الحمد على نعمك وعطاياك، وهبتني فرحة قلبي، َها أنت تأخذه مني،ـ فالطف به واستقبله بأجمل تباشير الفرح في جنان الخلد، فقد كان ذاكرا تاليا صائما عابدا محبا للصلاة، قلبه معلق بمسجدك، فلا تخزه يوم القيامة يوم تبعث عبادك. اللهم لا تتركني بعده وضمني إليه، لا تتركني أتذوق مرارة الفراق ولوعة الشوق ، لحظات صمت، وتقدمت هند خلف أمل لتذكرها بأن الرجال ينتظرونه، ولكنها لم تجبها، بل سقطت بجانب ابنها لتلفظ أنفاسها الأخيرة.
رحماك ربي، أمل أمل رددت هند اسمها وهي تحاول إنقاذها، فقد تكون أُغمي عليها من التعب، ولكن ملامح الطبيب الذي أخذ بالكشف عليها أكد غير ذلك، لقد فارقت الحياة مع ابنها، يالها من موتة مع من تحب، لم تتحمل أن يبقيها الله بعد وفاة محمد إثر الحمى المرتفعة، ها هي تمسك به َكأنها تطلب منهم أن يدفنوهما معا.
يالله يالها من نهاية مبكية لم يتوقعها أحد، الكل ينتظر جثمان محمد وها هي تخرج إليهم لتخبرهم الخبر، أن أمه انضمّت إليه حبا ولهفة؛ لكي لا يتركها وحيدة، طلبت من ربها بصدق أن يأخذها معه، وها هي تغادر الحياة راضية مرضية، كم حاولت أن تدمجه مع الآخرين، ولكنه لم يجد الراحة إلا مع صحبة القرآن، وبدأ في الحفظ، كم كان متعطشا لتلك الكلمات التي أخذت تروي روحه، وينتهي من حفظ الأجزاء الواحد تلو الآخر بإتقان، مما أسعد قلب أمه وشجعها هي الأخرى لحفظه ومراجعته الدائمة معه، كلما جلست معهما أحسست بجو غريب من الطمأنينة وراحة البال، فهما يأخذانك لعالم آخر بعيدا عن ملذات الحياة، وها هما يودعانها تاركينها بكل مافيها من جمال وبهرجة من آمال مؤجلة وأحلام مرجوة، تركوها لأهلها، وها هما ينضمون للقوافل المغادرة للراحة الأبدية.