2024
Adsense
مقالات صحفية

العبثية المفرطة

خلفان بن ناصر الرواحي

في ساعة صفاء ذهني مع نفسي، وخلوة في فيافي واسعة بين أحضان الطبيعة الصحراوية، المطرزة ببعض من أشجار السمر والسدر، وبعض النباتات الصحراوية، في لوحة فنية رائعة، وفي لحظة ما قبل الغروب، والقمر في ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول لعام ١٤٤٣ هـ، حيث كان بازغاً أعلى قرن الجبل من الجهة الشرقية، وكأنه يعلن لحظة السكون وأفول النهار مودعاً لنا بعد غياب شمسه، بالرغم أنها علمياً هي التي تضيؤه، فهي غائبة عن عيوننا، لكنها باقية خلف الستار القمري، فترسل شعاعها من خلال قرصه الوضاء، بخفة ورقة، وبوضعية مخفية محكمة بحكمة الخالق المدبر لهذا الكون على مسرح الفيافي الشاسع؛ ليتعاقب علينا الليل والنهار، والشمس والقمر متلازمان معاً في علاقة متينة لحاجة القمر لشعاع الشمس لكي يضيء، مع إدراكنا لحقيقة أنه لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، فكلٌ في فلك ومدار خاص به دونما ضجيج، أو صخب يدعي الأفضلية.

في تلك اللحظة من ساعة الصفاء، حدّقت فيما حولي، وراجعت كشكول الحياة من منظوري الخاص، وأدركت أن السلوك البشري في الصراع مع الحياة والعلاقات الاجتماعية يحتاج إلى مراجعة ودقة في البحث عن مجريات حقائق الغفلة، والجهل، وقلة الوعي، وعدم المبالاة في محاكاته لما يجري من حقائق ووقائع نعيشها دون وعي، أو إدراك لما قد يحدث لنا من ردّة فعل من انعكاسات سلبية علينا وعلى الآخرين، وكل ذلك هو الجهل بعينه الذي يقع معظمنا فيه دون مبرر، أو قناعة للتقبل أو الرفض؛ فحينها نبقى علامة استفهام نعجز عن تفسيرها لأنفسنا قبل تفسيرها للآخرين، وذلك من خلال اهتمامنا بالقشور، وجهلنا وعدم إدراكنا بلبِّ الأمور.

فَلَو رجعنا بكم للوهلة الأولى وشاركتموني الحدث في ساعة الصفاء عندما وصلت إلى هذه الفيافي المقفرة، وتأملنا معاً في مجريات التعايش بين الأشجار برغم الاختلاف في النوع، والعمر، والسلالات والفروع، والطول والقصر، والاخضرار والتيبس، والعلو في المكان أو السّفلية، والصبر على تحمل العيش وعدم الصمود؛ فبلا شك سنجد أنها تحاكي واقع حياتنا البشرية رغم اختلاف الخِلقة؛ فهي جمادات غير ناطقة، وتتقبل التعايش معنا ومع كل ما يدب على هذه البسيطة، من حيوانات أو بشر، إلا إننا نتميز عنها في العقل، ولكننا غير مدركين لحقيقة ذلك التميز لتسخيره كما ينبغي إلا من قلة.

هكذا يستمر الصراع الأبدي بين البشر أنفسهم، وتتشدق الأفواه وتدعي أنها تعيش في سلام ووداد، وتعايش وقبول، ولكنه الجهل وقلة الوعي هو الغالب عن أحقية فهم الحياة بشتى صنوف تفاعلاتها الحضارية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغرس الوعي الذاتي قبل غرسه، وتعليمه للآخرين بمختلف أشكاله المباشرة وغير المباشرة، لتتشكل لدينا حينها قناعة كاملة بضرورة غرس أرضية صلبة للتعايش، والاستعداد النفسي، والسلوكي، والثقافي، والاجتماعي للخروج من مأزق العظمة، بعيداً عن تداعيات المؤثرات التي تربطنا مع جنسنا من بني البشر، كاللغة، والثقافة، والدين، وينبغي لنا استنباط مفردات الوعي بالتسلح الثقافي الفكري الذي يناسبنا من حيث الفهم واختيار المرجعيات والقدوة، فليست كل مرجعية أو قدوة لها حق التفرد في ادعاء صحتها وأميزها عن غيرها، فالحياة بأكملها مدارس تختلف في الفكر والسلوك، وعلينا أن نبحث عن الوعي الحقيقي الذي ينتشلنا من غفلة الوهم، ويخرجنا من دائرة الجهل لنعود إلى التميز بالعقل.

ففي أغلب الظن، وهذا هو الهاجس الذي أغلبنا يعيشه، بأن الاستعداد الثقافي والسلوكي لذو أهمية في بناء أرضية صلبة لغرس القيم، وبناء العلاقات وتوطيدها، وبناء النشء على الوعي المنبثق من مجمل الممارسات بين بني البشر كافة، فالحياة أصبحت في زماننا الحالي أكثر تعقيداً من القرون الفانية، وأصبحت مختلطة بالتكوينات الفكرية والمرجعيات المتعددة، ولكن الغالب على القلة وليس العموم تعظيم الذات بغض النظر عن الدين أو العرق، أو الجنس، وهذا على المستوى الاجتماعي دون الخوض في مجريات الوضع السياسي المتلوي بفكر العبثية المفرطة للتربع على قمة الهرم بدعوى النخبة الزائفة.

كما أن التراكمات التي تتباين بين الوضع المادي، والسلوك الأخلاقي والأدبي لها دور بارز في تشويه تلك العلاقات الإنسانية، في شتى جوانب الحياة كالقرابة، والصداقة، والحب، والمصاهرة، والتكافل الأسري والاجتماعي، ناهيكم عن تمازج وانفتاح العالم وتداخل وصراع الثقافات في عالمنا المفتوح على مصراعيه بمختلف وسائل التواصل الحديثة.

بالرغم أنها كانت ساعة صفاء بالنسبة لي، لكنها فجرت ينابيع التراكمات، وأشغلت فكري، وساقها قلمي، وربطتها بين علاقة الطبيعة للطبيعة، وعلاقة البشر للبشر، وما ضوء القمر الذي بسط أجنحته على بساط مسرح الفيافي إلا جزءٌ لا يتجزأ من مجريات الأحداث والتراكمات التي شوهت جمال لوحة حياتنا، ولم يسلم منها إلا القلة، وعلينا أن نتدارك أنفسنا قبل فوات الأوان، فما يدعو إلى الاستغراب أحياناً انتهاء علاقاتنا الإنسانية لأتفه الأسباب، ولكن ما لا ندركه ونغفل عنه كثيراً هو تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، فكثيرٌ من البشر رحل وكان متحملاً عبئاً فوق طاقته، وتجاهل ما لا يمكن تجاهله، وصبر على ما لا يمكن الصبر عليه، فمتى يا ترى نستفيق من تلك الغفلة! ونرمم ما يمكن ترميمه لذواتنا أولاً ومع الآخرين، ونصلح ما أفسده الدهر رغم صعوبته؛ مع يقيننا التام بأنَّ “ما لا يُدْرك كُلُّه لا يُترك جُلُّه”.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights