2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

ليس مَن رأى كمَن سمع يا مولاي

أحمد بن سليم الحراصي

لطالما سمعنا عبارات وجُمل عندما كنّا صغاراً، وحفظناها واستقرت في عقولنا وأخذنا نرددها بين الفينة والأخرى دون أن ندرك معناها ومغزاها، ومع مرور الزمان وتوالي السنين، كبرنا وبدأنا نفهم هذه الجُمل والأحكام الرائعة، فهي بحقٍ رائعة وإلا لَمَا اتسعت لها عقولنا عندما كنّا صغاراً، لتترسخ فينا ونفهمها عندما كبرنا، وكأيّ طفلٍ في العاشرة من عمره، أخذتْ هذه العبارة حيّزاً اختزنته ذاكرتي، عندما كنت أشاهد مسلسل الزير سالم الشهير وكان هناك حواراً شيّقاً بين البسوس والتُبّع اليماني حينما أخذت تصف له الجليلة ابنة مرّة بأغرب أوصاف نساء الدنيا، في امرأة لم يكن لها مثيل بين نساء الأرض، فاستنكر الملك هذا الوصف البليغ قائلاً لها: كأنكِ تزينينها لي وتبالغين في وصف هذه المرأة؟ فردّت عليه بالعبارة الكيَّسة والخالدة في الذهن قائلة: (ليس من رأى كمن سمع يا مولاي)، هذه العبارة التي استوقفتني وأُعجبتُ بها لِما لها من إيقاع متناغم وردٌّ بليغٌ يحوي معنىً قوياً، ليس من رأى كمن سمع، أي أنني رأيت هذه المرأة وأقول ما رأيته فيها وأنت سمعت عنها ولكنك لم ترها فلو رأيتها لربما تراجعتَ عن شكّك هذا في مبالغتي لوصفها، فهل وقف الملك هكذا دون أن ينبس ببنت شفة؟ بالطبع لا، فقد طلب الجليلة الجميلة هذه لرؤيتها والزواج منها، وعندما رآها انبهر بجمالها وأكّد كلام البسوس هذا.

إنها الحقيقة إذاً، أن نرى ما سمعناه لنؤكد حقيقة ما سمعناه ودائماً ما كنت أرى بأن ما نسمعه يظلّ ناقصاً ما لم تراه ليكشف الخبر على أنه حقاً أم باطلاً، ولذلك كلّ ما تسمعه يظلّ ناقصاً ويشغل ذلك الفراغ الناقص من الكوب الذي لم يمتلئ بالماء؛ وذلك لأنك لم ترَ الجانب الآخر.
فالحقيقة ناقصة ما لم ترَ ما سمعته وإن كانت صحيحة، ولطالما راحت علاقات وتفكّكت أُسَر نتيجة شكّ سمعته من واشٍ غير مبالٍ بعلاقاتك الحميمة غير أن ينهيها ويتمنى أن تذهب أنت ومن تحبّ إلى الجحيم، فماذا فعلت أنت؟ أعطيت مجالاً لمثل هؤلاء دون أن تقطع الشكّ باليقين وتتأكد لترى أو لتراقب التصرفات عن كثب.

وكثيراً ما خاب ظننا من أصدقائنا ومعارفنا في ظنهم بالسوء بنا؛ وذلك فقط لأنهم سمعوا عنّا دون رؤيتنا على حقيقتنا ودون أن يكلفوا عناء أنفسهم ليتأكدوا ودون أن يطبقوا أن مَن سمع ليس كمَن رأى، فمن أين نجد ثقة في مثل هؤلاء الذين يصدقون فينا ما يُقال عنّا منذ الوهلة الأولى؟ وصدق الشاعر كريم العراقي حينما قال (كم خاب ظني لمن أهديته ثقتي، فأجبرتني على نسيانه التهم)، وإن من مثل هؤلاء الذين يصدقون الكلمة لحظة سماعها ويروجونها على أنها حقيقة ليصبح الأمر في النهاية مجرد (إشاعة) أضاعوا جلّ علاقاتهم وجهدهم نتيجة سوء ظنونهم ونسوا بأنه ليس من رأى كمن سمع.

وحينما وُجّه للنابغة الذبياني لومٌ وعتاب من النعمان بن المنذر نتيجة واشٍ ليس بينه وبين النابغة إلا لأنه يحسده على تقربّه من الملك والعطايا الكثيرة التي يأخذها منه على غيره من الشعراء، وها هو النابغة الذبياني يردّ ليقطع شكّ الملك من ما سمعه عنه في قصيدة استهلها ببيتين من الشعر، أعتبرها الأروع لِما لها من تؤكيد وقسم للشاعر يؤكد خلالها بأنه بريء من اتهامات باطلة ليس لها أساس من المنطق حيث قال:
(أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصبُ
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء الله للمرء مذهبُ) ليدحض فتنة أشعلها واشٍ بين ملكٍ من ملوك المناذرة وشاعر من بني ذبيان لا يجاريه أحدٌ في الشعر من شعراء عصره (لئن كنت قد بُلغتَ عني وشاية، لمُبلغُك الواشي أغشُّ وأكذبُ) ليؤكد بعدها على مكانة الملك في قلب الشاعر (فإنك شمسٌ والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبدُ منهنّ كوكبُ) إلى نهاية بيت في القصيدة (فإن أكُ مظلوماً فعبدٌ ظلمته، وإن تكُ ذا عتبى فمثلك يُعتبُ)، ما أروعها من أبيات أتت بثمارها فاستأصلت الفتنة وردّ كيد الحاقدين في نحورهم، دافع الشاعر عن نفسه ليثبت للملك أنه ليس من رأى كمن سمع وقبِل الملك به وأجزل له في العطاء.

وما نراه الآن من مشاريع في الصورة شيء والواقع يظهر لنا شيء آخر، وقد سمعنا عن تخفيضات لبضائع هي في حقيقة الأمر لم تكن سوى إغراء جاذب لشرائها، وأُلصق السعر عليها على أنها تخفيض بنسبة معينة ولم تكن سوى السعر نفسه أو تخفيض ببضعة بيسات قليلة، وكم من امرئٍ حجز تذاكر السفر قبل موعد سفره بسعر ففوجئ بعدها بأن هناك زيادة في سعر التذاكر في اليوم المحدد للسفر، وكم من شخص حجز غرفة في مكان ما ففوجئ بزيادة سعرها في اليوم الموعود للإقامة فيها، فأمرك فيها مسلّمٌ منه إذاً؛ فليس لديك خيارٌ سوى أن تقبل بها، فليس كل من سمع كمن رأى.
إنها العبارة الوحيدة التي تحمل كمّاً هائلاً من المعاني التي لا يمكن لأحد أن يفسرها على الطريقة التي يُريد.

دائماً ما كانت الحياة تظلمنا؛ لأننا لم نكن منصفين مع أنفسنا؛ ولأن الناس الذين نعرفهم يروننا من جانب ومنظور واحد، ولذلك اختلطت الحقيقة بالتزييف وصارت أحكام الناس هي من تثبت حقيقتنا، ربما ما نسمعه يثبت حقيقة ما نراه وهذا هو قطع الشكّ باليقين وهو الوصول إلى الحقيقة المزعومة سمعاً وتأييدها بصرياً، فعندما أقول بصرياً يعني عينك وعقلك من جانب فليس كل ما تراه أيضًا يصبح حقيقة قائمة ما لم تُحكّم عقلك فيه، وإن من قام بظلمك يوماً بشيء لم تكن أنت فاعله، ينبغي عليك أن تدحض هذه الاتهامات للحفاظ على علاقاتك كما فعل النابغة الذبياني، لذلك يا أصدقائي، احفظوا جيداً ما أقوله لكم، ليس من رأى كمن سمع واجعلوا منها شعاركم في الكشف والبحث عن ظنونكم الخبيثة التي لن تصل بكم إلى نتيجة سوى الوقوع في براثن الضياع والتسيَّب والمزيد من الظلم والإجحاف.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights