«الاحتجاج الأخير»
طه جمعه الشرنوبي
إلى كل مجانين هذه الأرض الذين يقرأون بشراهة هربًا من الواقع إلى عالمٍ مواز، أو الذين يملّون القراءة سريعًا هربًا من الضجيج الذي يُعانيه مؤلف الرواية مع المشهد الأخير.
الذين يستمعون إلى مسارات الموسيقى عَبر سمّاعات الأُذُن، ومعها جُرعات إضافية من النيكوتين، ثُمّ احتساء فنجان قهوة ساخنة، ثُمّ يبحثون عن أحد ممن تركوهم في صفحة الوفيات لإيجاد أسباب للغياب، ثُمّ يقومون بطيّ الجريدة أسفًا وخجلًا.
الذين اعتادوا غناء أُغنية أحبوها بعد مُنتصف ليل تشرين أو رُبما أيلول حين تتفقدهم الذاكرة، فتجدهم على قيد الموت، ومع كثير من الأسى لم ينتبهوا إلى عابر أحبّ موتهم أو لعنه ساخرًا.
إلى كل مجانين هذه الأرض الذين لم يَتّسع العالم لهم، أولئك الذين امتد لهم العالم في خارطة المعنى، يهتمون بالتفاصيل كعُبور طفلة مُقيدة بالرغبات في شارع حجريّ قديم، عيونها مليئة بالحلم، يقول صاحب الحانة عنه وفي يده كأس من الخيبات التي تجرعها ولم تُسكره :”سأذهب وأحضره لها”.
الذين ينتظرون الدقيقة الأولى في الساعة الخامسة والعشرين ليجتاح الأنين القلب الأكثر قسوة، ثم تُحاول ترميم بقاياك أثرك المُحطّم..!
ثم لم يسعك تكرار المساء لتعرف من أين تأتي الرغبة المُلحّة لبدء الهلاك بلا سبب..؟!
الذين تُعاندهم خطواتهم، ويَرقّ لهم الطريق والأرصفة، والمقهى القديم، وعازف الكمان، وبائعة الورد، والنصف الأخير من الليل حينما يستسلم الحمقى لرغبات الموت التي وُلدت للتّو من الخاصرة.
الذين يتساءلون باستمرار إذا ما كان الجحيم يتسع لكل هؤلاء الذين أرهقونا وبادرونا بكل أسباب الحياة، ثم سلبوها كمحتل ينتزع منك رائحة الورد، ومراودة الحلم، ورسالة ورقية قديمة استوطنت جيبك، منفى في بلد شرقي..؟!
الذين فشلت كل محاولاتهم في التغطية على صرخاتهم بواسطة مُكبّر صوت الراديو، أو قراءة حادثة في جريدة، أو رواية في منتصف الليل أبطالها التقيا قُرب مستوطنة في بلاد الحرب والقهر، وهربا إلى أحد المخيمات، وتزوّجا وأنجبا طفلة اسموها “حياة”، تلك المحاولات البائسة هي بمثابة إعلان احتجاج أخير.
الذين جفّت أوردتهم فأصبح لونهم باهتًا، تجمعهم صُدفة الغُرباء مع المرآة كل صباح، وصفحات الجريدة، ورائحة القهوة، وعطر النيكوتين المستوطن أيديهم، فيقدّمون لأنفسهم التحية؛ لأنهم رغم هزائمهم لم يخجلوا من تقبّل أنفسهم كمصادفة الغرباء.