سميحة الحوسنية
افترشت النجوم نورها لتصلي في محراب الطهر والنقاء، تناجي ربها في ليلة اكتحلت بالسواد، فكانت أبواق الرعد وقناديل البرق هي ليلة شتوية. اكتست بلون الثلج، أحدثت ضجيجًا مخيفًا في تلك الليلة السمراء الحالكة، وقد سلب النوم من أجفان الفجر الذي بدأ يحيك من خيوط النور الناعسة معطف الدفء قبل ولادة الصباح؛ ليرتديه الأمل عبر نوافذ الحياة.
بدأت القصة عندما زادت حالات الوفيات والاصابات بمرض كورونا والذي راح ضحيته الكثير من الأرواح، فسكن الحزن خلف الأبواب وأطفأت الحياة قناديل البهجة والسعادة، فلا موسيقى تنبعث من أوتار المساء، ولا نورسين يتسامر معه السهارى، هناك بُحة مخنوقة بالعبرات في حنجرة الناي الحزين عندما تتلاحق ببراءة في جوفه صغيرات السمات، فتصدر صوتًا، فيهيج بكاءً، فيغرق الحزن مراكب الصمت.
حينها قرر (سليمان) وعائلته العودة إلى البلد ليقضوا تلك الأيام العجاف والحبلى بالفقد في مزرعة والده (حميد)، فكانت وارفة الظلال وطيبة الثمار، وقد غرس فيها (حميد) شباب عمره ورواها بحبات العرق، فكان يشهد كل صباح ولادة أغصانها ونضارة ثمارها. وصلت عائلة (سليمان) إلى القرية ليستقبله والداه وإخوته بكل شوق بعد فترة غياب بسبب الحظر، فكان العناق والبكاء الطويل سيد الموقف، كيف لا وقد عانى (سليمان) من فقد ابنه (عامر) في تلك الفترة الذي التهمه المرض، فكان لقمة صائغة في مائدة كورونا القاسية، فلا عزاء يواسيه، ولا أيادي تربت على كتفيه صبرًا، فكانت أيامًا بطعم العلقم.
مضى شهر على مكوث سليمان وعائلته في المزرعة، وقد أزاح التفاف العائلة بعضًا من حزنهم وكمدهم على فقدهم لابنهم الذي يبلغ من العمر 21 سنة، وقد غادر الحياة في عمر الزهور.
ذات مساء أتت الدكتورة (خولة) وعائلته لقضاء إجازتها في المزرعة كفرصة جميلة لوجود أخيها (سليمان) والعائلة، ولتخفف عليهم من فاجعة الموت التى خطفت ابنهم.
كانت الأمور تمضي على ما يرام، وقد سعد الوالدان بتحلق أبنائهم حولهم، ولكن بعد أيام بدأت بعض علامات الأعياء تظهر على ملامح الدكتورة (خولة) التي بدأ الجميع يلاحظ حركات أصابعها وهي تضغط على جبهتها وكأنها تسكن بعض الألم بين الفينة والأخرى،
فسألتها والدتها: ما بك يا خولة، هل أنت على ما يُرام؟ فأجابتها: أنا بخير يا أمي، لا تقلقي، أشعر ببعض الصداع من جراء ضغط العمل المتواصل، فطغى الإرهاق على ملامحي.
الوالدة: سأضع لك بعضًا من المحلب على جبهتك لتسكين الألم، وبفكاهة قالت: الآن أصبحت دكتورة قد لا تروق لك أدوية والدتك الشعبية، فضحك الجميع من عفوية حديثها.
الدكتورة (خولة): لا عليك يا أمي، لقد تناولت مسكنًا للألم، سأستعيد حيوتي بعد قليل.
ذهبت(خولة) لتجلس بجانب أبيها (حميد)، وكعادتها تضع يداها على كتفه وتسأله عن مدى مواظبته على استخدام أدوية الضغط والسكر وعن صحتة بشكل عام، بينما أدار الحوار (سليمان) عن الإستراحة الجديدة التي تنوي العائلة تجهيزها لتوسيع مكان تجمعهم واستجمامهم، وبعد انتهاء السهرة العائلية ذهب الجميع للنوم إلا (خولة) التي بدأت الآلام تعتصرها وقد شعرت بأنها غير قادرة على الحركة.
لم تفكر البتة أنها قد تكون مصابة بالفيروس لتلقيها اللقاح، فأصيبت بالإغماء، فتم نقلها بصمت – لكي لا تقلق راحة العائلة – إلى مستشفى القرية، وهناك اتضح بأنها مصابة بالفيروس، ولكن حالتها لا تشهد استقرارًا، فهي (حبلى) وفي شهورها الأخيرة، ومضى على ترقيدها أسبوعين، فساءت أحوالها الصحية لتفقد جنينها، فهي تعاني من مرض القلب منذ صغرها، وغادرت روحها الحياة.
وقع الخبر كالصاعقة على أسرتها، بينما كان أخوها (سالم) وابنها (حسام) مصابين بالفيروس، وتم حجرهما بالمزرعة.
انهارت عائلتها على خبر وفاتها، فبالأمس غادرنا الشاب (عامر)، وما زالت جروح فراقه دامية واليوم نودع عمته، فكان حزنًا عميقًا ألمَّ بهم، فكان العزاء الذي جمع بعض أفراد عائلتهم وذويهم وأحبابهم من المعزين ليكتب القدر فاجعة أخرى تدمي قلوبهم، حيث كان (ناصر) العائد من الهند أحد المعزين ولم يمضِ على حجره سوى أيام بسيطة بعدما لفحته ألسن الحمى، فخرج ليلقي أثقاله من كورونا على (حميد) وبعض المعزين ليشاطروه تلك الأوجاع وآهات المرض.
ففي اليوم الثالث للعزاء شعر (حميد) بالكثير من الآلام التي بدأت تسري في أوردته وتغرز مخالبها في كل جزء في جسده، فكانت لحظات قاسية عاشها (حميد) بين آلام الفقد ومرورته وبين تلك الآلام التي تعتصره، وقد بدأت ملامحه تتغير ولم يأبه، فنيران الحزن التي تضطرم بداخله كانت تقذف جمراتها في كل لحظات حياته فيجهش بالبكاء حتى أهمل صحته ولم يكترث لتناول علاجه، فنصحته زوجته بالمواظبة على العلاج لكي لا تسوء حالته فأخذ الأدوية واستسلم للنوم لتوقظه أجراس الحمى الباردة التي أخذت تسري في جسده، والتي وصفها كأنها آلة كهربائية تنفض أحشاءه.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجراً عندما استيقضت الآلام في جسد (حميد) وكأنها سئمت من نومه فشعرت بالوحدة، وربما اشتاقت لسماع أنينه لتبدأ قصته مع مرض كورونا الذي عانقه عناقاً حطم أضلعه، وبدد قواه، واستيقظ الجميع على نداء الحاجة (زوينة) وتم نقل( حميد) إلى المستشفى. مضت ثلاثة أسابيع وثمة سحابة رعدية تمطر حزناً على عائلة (حميد) الذي بدأ يصارع المرض والكمد في آن واحد تحت تلك الأجهزة التي تأن وتصمت وترفع ضجيجها. كان الجميع متلهف وقلق لعودة (حميد) للمنزل، وكم كانت عقارب الساعة تلدغ لحظات الانتظار، فخلف زجاج العناية المركزة كانت تقف عائلته ترسل الدعوات، وتتضرع لله أن يعود (حميد) الذي بدأ يبتسم من خلف الزجاج، علّه كان يستمع لأحاديث زهرة النرجس وهي تسامر نبات البرسيم، وضحكات الفلج مع نسمات الفجر الباردة التى اشتاق لأحاديثها وأطفاله يلعبون من حوله، وخطوات (زوينة) وهي تحمل القهوة وفطور الصباح وبصوتها الجميل تناديه:(حميد يا الله نتريق). أطفأت الروح سراج النور المعلق في الغرفة لتصعد إلى السماء،ولتغلق الستار عن المشهد الأخير من فصول حياة (حميد).
هناك شخصيات غادرتنا بسبب اللامبالاة والتهاون بخطورة المرض؛ ليصحو على واقع الفقد المرير. توفي حميد ولروحه السلام.