سميحة الحوسنية
هناك ضوء ينبعث من كلتي الغرفتين، إنها الساعة الثانية فجرًا، مازالت زيانة تستمع لأغاني السهارى، بينما يكتب لها سيف أجمل قصائده الشعرية يطوقها بأكاليل العاشقين، لتداعب تلك الكلمات نبضها وتحتضنها قبل وسادتها المزركشة والمطرزة باسم سيف، فقد نما وترعرع حبهما في البيت الكبير منذ الصغر، فالحاجة عامرة جدتهم دائمًا تردد هذه العبارة:(سيف لزيانة.. وزيانة لسيف).
كانت أيامًا جميلة قضاها كلاهما في كنف عائلتهما وجمعتهما ذكريات الطفولة البريئة، فقد كانا يتسابقان لقطف (البيذام) من مزرعة العائلة الخضراء، وكثيرا ما كان يختفي عن الأنظار ليقدم (الورد المحمدي) ويضعه على ضفيرتيها الطويلتين ويحملون (القت) لحظيرة الغنم.
مضت السنوات وحلمهما بالزواج يكبر تتوجه المحبة يومًا بعد يوم، حتى انتهيا من دراستهما وحصلت (زيانة) على منحة الابتعاث الى إحدى الدول الأوروبية، كان الوضع بمنتهى الصعوبة لقلبيهما ففكرة الاغتراب لم تكن في الحسبان، ولكن كان إصرار والدها وتشجيع عائلتها لكي تحظى بتلك الفرصة.
غادرت (زيانة) وقد رسمت لوحة قريتها الجبلية في ذاكرتها بمساحاتها الخضراء الشاسعة تعطرها رائحة (شيلة) جدتها بحضيتها ذات الأطراف الصوفية بألوانها القزحية المبهجة ، كان يومًا حزينًا، فالعائلة قد تجمعت لوداعها، وكانت اللحظات والدقائق كالجمر يحرق نبض (سيف).
كانت الشهور تمضي ببطء شديد، ورسائل الاغتراب تنزف الحنين، يحملها الحمام الزاجل ليؤنس وحدتيهما ويخفف من نيران الشوق التي تضطرم في أعماقهما، ولم تخلُ تلك الرسائل من قبلات الحنين وصبابة للعودة للوطن وشم رائحة ترابه.
مضت سنوات وها هي (زيانة) تستعد للعودة للوطن في حضن عائلتها ولتوثيق ذلك الحب النابض الذي لايهدأ بالرباط المقدس، وهذا ما أصرَّ عليه(سيف) بأن يتم الزواج حال عودتها، فكانت فرحة العائلة كبيرة.
وصلت (زيانة)، وقد استقبلها (سيف) ووالداها في المطار، فكانت لحظة لاتصف لتستقبلها الجدة (عامرة) بحبات الفراخ(الفشار) المختلطة بالحلويات و بعض النقود لتنثرها عليها حين دخولها للمنزل، وصلت السيارة فخرج الصغار لاستقبالها وما إن دخلت، حتى بكت من شدة شوقها لعائلتها واحتفائهم بها.
بدأت التجهيزات ونحتت الأفراح في جدران القرية ضحكتها، فكان حديث السعادة والقفص الذهبي.
بدأت التحضيرات للعرس العائلي المقتصر على أفراد العائلة بسبب ظروف الجائحة حينذاك، فكان حفلًا بهيجًا مفعمًا بالفرح.
الحاجة (عامرة): الحمد لله الذي أطال في عمري لتتحقق أمنيتي بزواج (زيانة) و(سيف)، وقد قدمت قلادتها (الحرز) وبنجريها المشوك هدية ل(زيانة)، وهذا ما جعل (زيانة) تفيض سعادة.
مضت شهور على زواجهما لتباشر (زيانة) عملها كدكتورة في أحد المستشفيات، في الفترة التي كانت تعتصر فيها القلوب بسبب الوضع الوبائي والذي أودى بحياة الكثيرين، فكانت (زيانة) يوميًا تشهد مواقف الرحيل في معمعة المرض.
فكانت تحاول الابتعاد عن عائلتها خشية أن تكون وعاءً محملًا بالفيروس، فتسكبه في قلب عائلتها الغالية، فكانت حريصة على ذلك.
بينما كان (سيف) ذاهبًا في رحلة مع أصحابه للاستمتاع بالطبيعة وللاحتفاء بزواج صديقه المقرب في احتفالية مصغرة اجتمع فيها أصحابهم في العمل، فأعدت الولائم وليمضوا ثلاثة أيام في احد الاستراحات ، كل شي كان يبدو على مايرام فلا وجود لأي أعراض مرضية على الحاضرين، فالكل سعيد لزواج (محمد) أربعيني العمر ..والجميع يردد واخيرًا سيدخل (محمد) عش الزوجية.
ذات يوم في أيام العطلة الأسبوعية عاد (سيف) من عمله وقد بدا منهكًا يتصبب منه العرق لتراه والدته في تلك الحالة فهرعت للجدة (عامرة) لكي تصنع له بعض الأدوية الشعبية تخفف من وهج الحمى في الوقت الذي كانت فيه (زيانة) تخوض معركة كورونا في محاولات لإنقاذ الأرواح التي نهشها المرض، عندما عادت إلى المنزل تفاجأت بحالة (سيف) وظهور تلك الأعراض التي تتعامل معها بشكل يومي وقد أخذ (سيف) الجرعة الأولى من اللقاح سابقًا أصرت أن تصطحبه إلى المشفى للاطمئنان عليه وهناك اتضح بأنه مصاب بالفيروس، جنّ جنونها، ف (سيف) بالنسبة لها حياة وعالماً مفعماً بالسعادة والطمأنينة .
مضت الأيام والعائلة تتألم لحاله، فلقد كان يعاني من مرض الربو منذ سنوات عديدة تدهورت أوضاعه الصحية، ودخل في سوداوية الغيبوبة وكانت الفاجعة عندما أصيب بجلطة، فانهارت قوى عائلته، واكتست بالسواد أيام (زيانة)، فكان كالجثة الهامدة لاتسمع إلا دقات قلبه وصفير الأجهزة في غرفة العناية المركزة، ولحظات حزن اقتلعت الفرح في القرية بأسرها، كانت (زيانة) تهمس في أذنه خبرًا سارًّا علّه يسمعها، ويفتح عينيه فيحملها من الفرح بيديه، ويجري بها بين النخيل ويؤرجحها في تلك المرجوحة التي صنعها العم (خلف) .. (أنا حامل يا سيف لاتتركني ، نحن بحاجة لوجودك هاهو حلمنا يتحقق، سألد لك طفلًا في غاية الروعة.. يشبهك).
لم تكن الأيام القادمة تحمل بشارات الفرح ، فقد فاضت روحه لخالقها لتدفن رسائل الاغتراب والصبابة في مقبرة قلبها، وليبصر طفلهما النور بعد أشهر بدون ان يردد (سيف) صوت الأذان في أذنيه،غادر سيف عن عالمنا ولروحه السلام.