سميحة الحوسنية
لم تكن ساعات المساء في (ليلة العيد) تحمل بشارات السعد ل(عائلة عبدالله) التي كانت تنتظر بفارغ الصبر بشارة فرح تلوح في آفاق الانتظار بعودة أبيهم (عبدالله) وهو يرفل بالصحة والعافية، بعد أن أصبح يصارع الموت في غرفة العناية المركزة، وقد تغيرت ملامح ابنه (محمد) من الحزن والتفكير في المصير الذي آل إليه والده، فكان الليل بالنسبة له شبحًا أسود يفترس قلبه ويطعنه بسكين سامة، وشريط الذكريات أجراس تدق في نبض اللحظات .. توقظ الأشواق من على أرصفة الطرقات وتنثر جمر حنينها في قلوب الفاقدين.
من هنا كانت البداية حين تلقى عبدالله نبأ وفاة زميله (سالم) بمزيد من الأسى والحزن العميق الذي وافته المنية صباحًا، وقد ارتسمت علامات الكمد والشجن في وجه ذاك الصباح الحزين، نزل الخبر على عبدالله كالصاعقة ف(سالم) لم يكن مجرد زميل عمل بل كان أخًا صدوقًا دامت علاقتهما طيلة( ٢٠ سنة) ولم يكن يشكو من أي مرض يذكر، فنظر عبدالله إلى مقعد زميله في مكتبه بعين كامدة النظر فانهار بالبكاء وخرج كالمجنون ليودع أخاه ورفيق دربه إلى مأواه قبل الأخير، وهناك التقى بمجموعة من معارفه وتبادلوا التعازي بوجوه جامدة التعابير، فذهب إلى بيته منكسراً والألم يعتصره، فلازم المنزل أيامًا معدودة حزنًا على فراق صديق العمر، ومع الأيام بدأ يفقد شهيته للأكل، فقد بدأ ينتابه شعور غريب بالمرض، فظن أن الحزن قد جلد جسده وجعله غير قادر على الحراك فأتعبه الخمول وثقل المارد الذي يقف على صدره، لم يفكر بالبتة أنه قد حمل الفيروس من كفوف المعزين وأحضانهم ليغرسه في عافيته كخنجر مسموم نال منه، فأصبح يسري في دمه حتى بدأ يفقد توازنه، فشعر الجميع بالخوف على حالته .. وكانت ليلة العيد المنتظرة .. التي ارتدت عباءة الفقد السوداء وأخذت ترافقهم ليلة مخيفة موحشة لم تكن كما كانت في زهوتها وديسق نجومها، فالفرحة باهتة مفعمة بالحزن والألم، والشوارع أطفأت قناديلها فلم يعد هناك سوى بعض السيارات التي تحمل أوجاع المصابين ب(كورونا)، وأمطار تنهمر دموعها في لحظات صامتة، وملامح وجوه يزرعها البين في مخيلتنا لوجوه غادرتنا في مفترق الطريق حيث قساوة الرحيل.
كانت الآلام تجلد (عبدالله) فلم يعد قادرًا على تحمل المرض، تم اصطحابه في تلك الليلة المظلمة، حيث صراخ الرعد وحبات مطر تطرق عليهم نوافذ السيارة، وبرق يضي لهم عتمة الطريق، فما إن وصلوا حتى بدأ (عبدالله) يواجه صعوبة في التنفس كأنه يغوص في أعماق البحر وقد انقطع عنه الأكسجين .. أدخل إلى غرفة العناية المركزة، ومضت الساعات في عراك مع عقاربها تارة تهرول وتارة تتوقف دقاتها، إنه فجر العيد ورائحة عطره الزكية التي كانت حاضرة في ممرات المشفى برغم قساوة لحظات الموت، هناك نثرت طيبها وعطرها مع خيوط الصباح ليشم عبقها (عبدالله) تحت جهاز الأكسجين وكأنه يسمع أصوات التكبيرات المنبعثة من هنا وهناك، فكانت تتحرك شفتاه فاغرورقت عيناه بالدموع، وصعدت روحه إلى السماء لينهار جليد الصمت في قلوب عائلته ومحبيه، وليفاجأ كل من ينتظر عودته وسلامته بخبر وفاته، فطار الحمام الزاجل ينشر النبأ الحزين فانهارت القلوب وأخذت دموع (محمد) تطرق زجاج نوافذ العناية المركزة تبحث عن أمل عقيم .. صمتت الأجهزة فتسارعت خطوات ملائكة الرحمة ليسدل الستار (وداعـًا أبي ما أقسى لحظات الرحيل).