عودة التمذهب الصحيح
د. علي زين العابدين الحسيني
الحمد لله والفهم المتسلسل الأصيل!
عاد التمذهب من جديد. ومن أين عاد؟
منتصراً من حرب “اللامذهبية” التي خاضها من أعوامٍ قريبةٍ، حاول فيها “اللامذهبيون” أن يقنعوا الناس أنّه لا حاجة لنا لكتب المذاهب الفقهية، وأن نستقي الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة دون الرجوع لكتب فلان وفلان، فهم رجال ونحن رجال.
مرتْ بالناس فترة كانت هذه الشعارات الخادعة المخادعة هي كلّ شيء، فكان من يمسك بيده كتاب “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع” يشعر بالغربة، وفي الطلبة آنذاك حالة تخبط وحيرة من أمرهم، فلا يدري أغلبهم ماذا يصنعون؟ هل يُقْدمون على الدراسة المذهبية أم يكتفون بما هو مشهور بالكتب التي تعتني بما أسموه “فقه الدليل”.
عاد التمذهب الصحيح إلى حلقات الدرس من جديد، وانفتح بذلك باب الأمل أمام الدارسين؛ ليجدوا أنفسهم أمام تراثٍ هائل لفقهاء الأمة، أطبق العلماء من قديم الزمان على الاعتناء به وتدريسه، وتأكدت للجميع حقيقة واحدة، ألا وهي أنّ مَن صدهم عن هذه الكتب والتشبع بها طيلة هذه السنين ما هو إلا قاطع طريق.
كانت مشكلة الأمس هي مشكلة الابتعاد عن كتب المذاهب الفقهية جملة وتفصيلاً، والنظر إليها على أنها ترف علمي، وليست حاجة ضرورية ينبغي الرجوع إليها، ولكن هل انتهت المشكلة بذلك؟
لم تنته بعدُ، فحينما عاد البعض للمذهبية والتقيد بدراسة مذهب من المذاهب عاد -بكلّ أسى- بخلفيته العقلية السابقة.
هذه المشكلة الراهنة لا تقلّ عن مشكلة “عدم التمذهب”، بل -في نظري- هي أخطر منها، فحينما كنّا نراهم لا يتمذهبون كان أمرهم واضحاً لنا، أمَا وقد لبسوا زي التمذهب وشرحوا كتب المذهب، بل وألف بعضهم في المذهب مؤلفات، وأصبح يشار إلى بعضهم على أنهم من مشايخ المذهب، فهذه هي الفتنة الكبرى، وبقي الشيء الأهم لهؤلاء، وهو أنّ الفهم الكامل لقضية “التمذهب” غير واضح لديهم، وفيه كثير من الإشكالات.
وخير دليل على ذلك أنهم يريدون إجراء منهجهم العلمي السابق على كتب المذهب، فتجد أحدهم يكتب منهجاً علمياً يذكر فيه ضرورة دراسة كتاب “الأم” للشافعي، و “الحاوي الكبير” للماوردي، وأخطر من ذلك مَن يريد أن يضرب بجهود النووي والرافعي عرض الحائط؛ ليذهب بنفسه وينظر في كتب الأصحاب المتقدمين ويستقي الأحكام منها، متغافلاً جهود عدة قرون دأب فيها العلماء على التنقيح والتهذيب والتوضيح.
هل يظنّ أنّه قادر على التنقيح والتهذيب كالإمام النووي، أم أنه يظن أنه سيأتي بجديد اعتماداً على ما عنده من مخطوطات جلبها من الشبكة العالمية للمعلومات “الإنترنت”.
وتأتي قضية “المعتمد” في المذهب، فهي الأخرى من الفاضحات الكاشفات، وهي أقوى دليل على مدى التزامهم بالمذهب الفقهي، حينما يفاجئون بأن هناك كثيراً من المسائل الفرعية والتي محلها كتب الفروع الفقهية قد تبنتها بعض الاتجاهات على أنها من أصول العقائد، وصاروا بصنيعهم هذا يرمون غيرهم بالكفر والشرك.
أجل، حينما عادوا وبدأوا يُدرسون الطلبة شرحوا لهم الكتب بعقليتهم السابقة، فهم وإن كانوا في الظاهر متمذهبين إلا أنهم لم يتقيدوا بشرح المتن كما هو مألوف ومعهود عند مشايخ المذهب، وأفضل مثالٍ على ذلك أن تستمع لدقائق معدودة إلى شرح أستاذنا شيخ العرب والعجم العلامة الفقيه عبد الرشيد بن محيي الدين المولوي المليباري لمتن من متون الشافعية لتكتشف الخلل الواضح بنفسك.
هناك فروقٌ واضحة وكثيرة بين شرح الشيخ الأصيل المتمكن من كتب المذهب، والذي قد تربى منذ صغره على كتب المذهب، وأخذ هذا الفهم للمسائل بتسلسل واضح عبر سنين مديدة، وبين شرح غيره ممن لم تطل صحبته لمشايخ المذهب، ولحق بسفينة المذهب متأخراً، فقرأ كتاباً أو كتابين واكتفى، ثم عقد بعدها حلقة علمية دون مراعاة للرسوم العلمية.
هذه هي المشكلة الآن، ولكن لا خوف، فستنتهي يوماً ما كما ماتت أو كادت أن تموت فكرة “اللامذهبية”.