يحدث أن تموت منفيًا
طه جمعه الشرنوبي- مصر :
العالم رمادي بما يكفي، كل الملامح باهتة، وكل العلاقات باهتة، وكأنه لا شيء حقيقي، لا شيء أكثر من أنكَ ترى البشر وكأنهم أشباح في عالمٍ مُعتم فَقد الحياة، أو سُلبت منه.
صخب الروايات عن الحياة في حياتنا قليل، كُل مؤلفي الرواية ومُرددوا الحكاية خَلقوا عوالم موازية حتي لا ينطفئ العالم، في محاولة لإنقاذه قبل الانطفاء الأخير.
ونحن علىٰ ضفاف الحياة نحاول أن نَسترق سمعاً أو مشهداً أخيراً للرؤية، لنرىٰ كيف تُنجب هذه الحياة كثيراً من الفَقد ومزيداً من الألم..!
إننا أمام مشهد سينمائي، أحدهم قريب ويُحاول الإقتراب أكثر، والآخر يُخبرك بأنكَ إذا كنت تُعاني الفراغ لا تتجه نحوه، لأنه يُعاني هشاشة في روحه، ولا يرغب في أن يكون نقطة لتعبئة فراغ أحد.
علينا تقبُّل أنه لا أحد سيبقىٰ، وأننا بضع ثوانٍ انتهت الآن، كما أننا لسنا جليد لا يتأثر بأي شيء.
الحياة كالمعاناة تمامًا تُهذّب الروح، لكنها خالية من المواد الحافظة، لذلك تقول إحداهن بعد أن فقدت شقيقتها :«حين ماتت شقيقتي لم تترك والدتي من بقاياها شيئًا خشية أن يُخلّد فينا الوجع..»، يفوت المرء دائمًا أنّ التفاصيل ستغدر به حين يظنّ أنه فاز في المعركة التي أضرمتها الحادثات، ليعود مهزومًا نهاية أيّامه أمام ضراوة الذكريات.
التفاصيل هي التي تجعلنا ننظُر بنظرة مُرهقة حيال آلامنا التي تسببها الذكريات ونقول: أفتقدك، أحتاج أنْ أسُدّ فَم الأيام، كل الليالي الخالية منك تؤرقني؛ لكن لا شىء أكثر جدية لسدّ فَم الأيام أكثر من أن نحياها.
لكننا هنا نعيش في منفىٰ، حوائطه تفاصيل وذكريات وفَقْد وألم، بعيدًا عن صخب العالم الموازي، لذلك إن رُميت في الجُبّ فلا تنتظر قافلة العزيز.
في البداية ستتخلى كَرهاً عن أملِكَ المُرتقب دون ابتسامة أو ضحكة، وفي النهاية ستتخلىٰ طواعية بنصف ابتسامة، ونصف ضحكة، إلي أن تموت منفيًا خلف نصف الإبتسامة، ونصف الضحكة الأخري، ونصف حياة.