اللِّبَأُ
د. يعقوب اللويهي
وسطُ ضجيجِ الجنود وهمسُ العسسِ قلقٌ يُؤرق قلوبَ الأمّهات من بطشِ فرعونَ الذي أمر أنْ يُذبح كلَّ مولودٍ يُولد، يأتي الوحيُ الإلهي إلى أمّ موسى ليُسكن تلك الفوضى في قلبها ويجعلَ الطمأنينة والسكينة في جوٍ يملؤه الحنانُ مع طفلها فقال تعالى: “وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ”.
فلم تكن الرضاعة غذاءً بدنيًا وحسب وإنما بيئة روحية تعيش فيه الأم عالمًا مطمئنًا مع وليدها واستكمالًا لطور نموه بعد تسعة أشهر في رحمها، فلو لم تكن للرضاعة ذلك الشأن العظيم لما ارتقت أن تكون أمرًا بوحي!
وحسبُك ذلك السكون الذي يعقب المخاضَ والآلامَه وزفراتِه في غرفِ الولادة لِمجرد أن يرتمي الرضيعُ على صدرِ أمِّه ملتقطًا صدرها فيرضع أولى قطراتِ حليبها الذي صُنع برعاية إلاهية خصّيصًا له، فذاك هو اللِّبَأُ وهو أولى باكورة الحليب الذي تفرزه غدد الثدي قُبيل الولادة وبعدها لأَيامٍ معدودة والذي يُعدّ تركيبه أمرًا يدعوا للتأمل لما له من أهميّة قصوى للطفل تتمثل في قيمته الغذائية والمناعية وغير ذلك من الفوائد التي لا تقتصر في فترة الرضاع وإنما تمتد إلى ما بعد ذلك.
وقد أثبت العلم أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل وعدم كفاءة أي غذاء آخر له فضلًا عن الفوائد الأخرى ذات الأبعاد الصحية للأم والطفل الأمر الذي أجمعت عليه أغلب التوصيات الطبية من منظمات وجمعيات على تفرّده بالقيمة الغذائية والحرص على أن تكون الرضاعة هي مصدر الغذاء له في الأشهر الستة الأولى، حتى شركات التغذية لم تستطع نفيَ أفضليّة الرضاعة الطبيعية عن أي بديل مُصّنع.
ولم تدّخر وزارة الصحة جهدًا في تعزيز أهمية الرضاعة الطبيعية وحث الأمهات على تقديم هذه الرعاية لفلذات أكبادهن، فكانت ولا زالت إحدى أهداف الجودة في برامج الرعاية الصحية الأولية.
إن الحديث عن فوائد الرضاعة الطبيعية لا يمكن حصرها في هذه العجالة والتي تشمل الأم والطفل ولكن المتأمل فيها يُدرك سرّ ذلك الاهتمام به وحث الأمهات عليه، وما أجمل التعبير القرآني المتوافق مع الفطرة في قوله تعالى: ” وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ”، فالتعبير جاء بصيغة الخبر، ومعناه الأمر؛ فمعنى: ﴿ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾ أي: عليهن إرضاع أولادهن، وعبر عن الطلب بصيغة الخبر؛ إشارة بأن ذلك الأمر نابعٌ من الفطرة متفقٌ مع طبيعةِ الأمومة وكأنّ تلبية ذلك الأمر لا يحتاج إلى طلب؛ وإنما أمرٌ مفروغٌ منه، فيا لِرقي هذه الحجة على من دعى بغير ذلك!.