2024
Adsense
مقالات صحفية

حروف مبعثرة في غرف العناية المركزة (3)

أحزان تتكأ على عكاز

سميحة الحوسنية

طرق كورونا الباب بزيه التنكري مختبئًا خلف (لبنى) التي قابلته عند البقالة التي تقع في ناصية الطريق، حيث كان مختئبًا في أحد الأكياس وعلب الشيكولاته يراقب تحركات (لبنى) ليل نهار، فكانت فريسته التي يراقبها عن بعد.

فأبى إلا أن يدخل معها المنزل لاحتساء كوب من القهوة ويمارس هوايته بعد أن يتعرف على أفراد أسرتها فكانت (لبنى) تشعر طول الطريق بأنامله القاسية التي تكاد تفتك بأناملها، فما إن دخلت المنزل حتى بدت عليها أعراض غريبة تغزو جسدها، فكانت خطواتها منهكة ومثقلة.

سقطت (لبنى)، فحرارة جسدها كبركان ثائر يقذف حممه تجاه كل من يقترب إليه وأصيبت مفاصلها بالخمول وبدأت تتقيأ فانتاب الخوف الجميع.
الأم: ما بك يا (لبنى)َ؟ ما الذي أصابك؟.
(لبنى): أمي لا تقتربي مني، فهذه الأعراض أصيبت بها (شمسة) صديقتي من قبل وقد اتضح بأنها مصابة بفيروس كورونا.
(الأم) : لا احتمل رؤيتك، تتألمين يا ابنتي سأحضر لك بعض الأدوية التي تحميك من لسعات الحمى.
(لبنى): سأكون بخير يا أمي لاتقلقي.
(الأب): لا أحد يقترب من صغيرتي (لبنى)، سأصطحبها الى المشفى حالًا.
مضت ساعتان على غيابهما، فالمشفى يبعد عن المنزل بعدة كيلومترات، وما إن عادو حتى هرع الجميع لاستقبالهما وهنا كانت الكارثة، لقد عانقت الجدة حفيدتها بدموع الخوف بالرغم من تحذير الأب للعائلة بأن لا يقترب أحد منها حتى التأكد من عدم إصابتها بالفيروس إلا أن عاطفة الجدة لم يكن يرويها سوى لحظات تعانق فيها (لبنى) الجميلة المدللة.
(الاب): إذهبي يا ابنتي إلى غرفتك وابقي هناك لاتقلقي، ستقوم بخدمتك من بعيد.
(لبنى): آه ياجدتي أشعر بأن الحمى ستلتهمني كفريسة لاتقوى على الدفاع عن نفسها.
(الأم): أجهشت الأم بالبكاء حماك الله يا ابنتي.
أصاب العائلة الحزن والقلق الشديد تجاه (لبنى) التي تذهب يوميًا إلى البقالة لتشتري بعض الشيبس والشيكولاته والآيس كريم لجميع أفراد العائلة، فكانت تذهب وتعود مسرعة حتى لا تذوب وتسخن المرطبات من حرارة القيظ الملتهبة وكثير ما كان يذهب برفقتها اخوتها الصغار.

مرت الساعات و(لبنى) تبكي في غرفتها تصارع الألم لوحدها في معركة الحياة، فعدوها شرس للغاية وتحاول أن تتغلب عليه بأخذ الحبوب وأكل الفواكه إلى جانب العلاجات الشعبية التي كانت تصنعها أمها وجدتها التي كثير ما كانت تجلس أمام باب الغرفة الموصدة تطمئن على أحوال لبنى صبحًا ومساء.

بعكازها القديم الذي أخذته من شجرة (العتم) يسند شيخوختها وترمي ثقل جسدها عليه، وكثير ما كانت تغفو لتذهب في سباتها العميق، كانت (لبنى) ترى غرفتها كغرف العناية المركزة، فسريرها الأبيض وتلك الستائر الناصعة البياض كثير ما تتخيلها ممرضة تمضي بخطواتها السريعة نحوها وعندما يعتصرها الألم ترسم بريشة الأمل نوافذ عدة في غرفتها المعتمة بالمرض علها تنظر إلى واقع مختلف عبر تلك النوافذ.

في اليوم التالي من بقاء (لبنى) في العزل المنزلي اتضحت نتيجة الفحص بأنها مصابة بالمرض، ذات يوم في الساعة السادسة مساء شعرت الجدة (فاطمة) بلسعات الحمى كأنها أفعى تبث سمها في جسمها النحيل والذي أصابته الشيخوخة وارتسمت عليه ملامح التعب والهرم .. لقد تمكن كورونا من جسدها وغزا اوردتها وكتم أنفاسها، فساءت حالتها الصحية إنها الجدة الحاجة (فاطمة) ذات ال(85) عامًا التي ظلت تحافظ على صحتها في كل مراحل حياتها إنها فنر البيت وبركته تم نقلها في حالة يرثى لها إلى العناية المركزة .. لتغادرنا روحها بالعودة، فكانت أمي تنظر إليها بحرقة شديدة فلاحضور إلا للألم والدموع في مشهد الوداع
.. فكم أحزن خبر وفاتها الكبار والصغار.

سيشتاق إليها الفجر وهو يشهد ترتيلها للقرآن. سيتذكرها صغار القرية وهي توزع بعض الحلويات، سيفتقدها أولادها وأحفادها في تجمعات الجمعة والمناسبات .. سيشتاق الجميع لدعواتها المسكوبة في طهر وعاء الروح وتلك الضحكات.

اعتصر ألم الفقد والمرض (لبنى) ليسكن الخوف في تفاصيلها وبعد مضي أيام صعبة عاشتها (لبنى) في أحضان المرض كتب الله لها النجاة ولكن لم تعد (لبنى) مرحة، كما عهدناها ولم تعد فاكهة الفراولة مع الشيكولاتة تغريها، فحالتها النفسية مازالت متعبة ومرهقة لتبعث لكم رسائل كتبتها بدموعها الغزيرة، حافظوا على أنفسكم، فنحن نمضي في عمق بحر الجائحة، فأما النجاة أو الغرق وخسائر فادحة فادعو لي أن تعود ابتسامتي أو لايرافقني شبح الموت الذي كان يسكن غرفتي ويقاسمني مرارة الماء والطعام ، وأدعو لجدتي بالرحمة والغفران .. وداعًا جدتي (فاطمة).

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights