هذه الروح النبيلة
مياء الصوافية
في أعماقِ الروحِ النبيلةِ أنفاسٌ طيبةٌ من رحمةٍ أنفاسٌ زاكيةٌ باكيةٌ في رِقَّتِها كأوراقِ زَهْرٍ، وَكَوَجَلِ أُمٍّ على صغير غاب عن ناظرها تكاد، هذه الأنفاس الطيبة أن تتعاظم حتى تصل بالروح إلى الهاجسِ المُؤَنِّبِ الذي لا يهدأ قرعه إنْ استمر غلق المَخْبَأ، وغاب ما يروي الغَليلَ، ذاك إنْ اعْتَرَ روح الإنسان أدنى كَمَدٍ فتظل نزور مخيلتها.
صورة الإنسان الذي أَسَالَتْ عليه رحمتها؛ لأنه في نظرها هو إنسان يتألم يَتَلوَّى وتسرح بفكرها هذه الروح النبيلة، تتخيل مقدار الألم الذي أصاب هذا الإنسان، تتخيل كم كان يبحث عن متنفس، وكم كان يقاوم الألم!، ولكم تمنت أن تكون مكانه ترد عنه مصابه، وتحمل عنه ألمه وإنْ تعاظم!.
تحاول أن تتأنق في أسلوبها فكل إنسان هو نفيس في نظرها، هو من تِبْرِ الكرامة، ومن الحياة روح؛ فأحْرَى أنْ يُصاغَ له من الكلام أعذبه، ومن المعنى أرحمه، و لا يكون هناك ولو حرفٌ واحدٌ خارجٌ عما يجب أن تكون عليه العزة لهذا الإنسان .
هناك من يرمي لها بَأَوْحالِ كلامه وبدناءة نظراته، فلا تعي مكنون الكلام ولا النظرة لأنها لا تفهم إلا الجميل، ولا تشعر إلا باللطيف، فإن استوعبت ذلك فيصيبها من الكَمَدِ ما يصيبها فتجهد أن تدافع عن نفسها، لكنه ليس بالدفاع المغلوب المنتصر، وإنما هو الدفاع الحكيم الرفيع حتى المخطىء في نظرها هو إنسان، فيجب أنْ يُعَدَّلَ من خطئهِ ويُوجَّه للصحيح، فليس من اللائق لديها أنْ يُصبَ عليه اللوم الطويل الذي به يتألم، فهو ما اقترف الخطأ إلا في لحظة ضعف، أو لحظة وسوسة خارجة عن سيطرته، أو لتربية في صغره لم تكن مروية بماء الأخلاق، أو لم تَنْمُ في تربة صالحة فجاءت هذه التربية علقمية القلب، تكاد الرحمة تغيب عنها غياب اللين عن صخرة صلدة لم تحفر فيها السيول.
هذه الروح النبيلة كأنما هي في المدينة الفاضلة، فكل من حولها ليس من المعقول في فكرها أن يحيكوا الدسائس أو ينظروا إليها نظرة لَوْمٍ، فإن حصل ذلك فربما بأن الأمر ليس بأيديهم، أو ربما هم في حالة من الغفوة، ولابد لهم من أن يستيقظوا منها، ويسيروا على المنظور الذي رأتهم عليهِ.
تبحث عن كل حق تلتمس صغيره قبل كبيرة، وقليله قبل كثيره، وبعيده قبل قريبه، تحاول أن ترده لصاحبه، وإن كان كلمة حانية وشفقة مُعِيْنَةً تَسْبُرهُ تتبع خفايا وقعه على نفسها، فما هو في نظرها إلا واجب تتطهر به النفس ويعلو بالمروءة.
هذه الروح النبيلة ترى نفسها يداً منتشلة لكل من عَصَفَتْ به ريح صَرْصَرٍ عَاتِيَةٌ على جذع ثباتِه وأطاحتْ بأوراق حياته؛فنراها مع المظلوم صوت الحق الذي يحاول أن يخرجه من قيود ذُلِّهِ إلى رحابة نُصْرته، ومن كَلالَة لسانة إلى رُعود زَمْجرتِه ونجدها مع الكسير المُنْكَفىء على نفسه المنطفىء، حلمه أنوار كواكب درية تعلو سماءه وتطير به إلى الآفاق بهاءً. هذا البهاء الذي ينير أرواح الكون ويُندي تربة الجذور، وعلى هذا فتتشرب أنفاس المنطفىء معها بقناعة الرضا، وبإبتسامة الحلم المنتظر فينمو من جديد كزرع احتضن دفء أرضه، وتلاحمت أغصانه مع أغصان ما حوله محبة وقوة، وتنشد معه أناشيد الأمل المشرق للأيام المخبأة خلف الرجاء الحالم.
هذه الروح النبيلة لها من الفطنة مالها تلك الفطنة الحكيمة التي تنظر من وراء الحجب بنفس مُتَرَوِّيَة هادئة، يقودها لطف ضمير متعقل، فَتُقَوِّمُ ما أَعْوَجَّ من أمر، وتنتشل من زحفت على ساحته الشرور، وعبست في وجه الدهور.
فما علينا إلا أن نحذو حذوها، ونركب قافلتها، ونطّهر نفوسنا بنَبَالَةِ خلقها، فربما نجد من هم على شاكلته، ومن يحثون الخُطى؛ ليلحقوا بكريم خطاها، و لكن على ظني إن وجدوا فهم قليل.
قال الغزالي: “وأما النبل فهو سرور النفس بالأفعال العظام”.