يقال: أن المدن تروج لنفسها
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
الكثيرون منا يسافرون إلى بقاع العالم المختلفة، سفراً للترويح عن النفس، أو لإضافة للمعرفة، أو للبحث عن هوية استثمارية، أو لتأصيل علاقات أكثر قربا، ألم يقل الشاعر: “سافر ففي الأسفار خميس فوائد؛ تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد”؟ ففي هذه المباحات والمتكآت لدواعي السفر، تنطلق القوافل من هنا؛ ومن هناك إلى بقاع العالم المختلفة، جماعات ووحدانا، مستقصية، ومتقصية الدروب والأمكنة، ومقتربة أكثر من هذا الإنسان في نشاطه اليومي، في عاداته، وتقاليده، وأساليب حياة لا أول لها ولا آخر، قيماً، ومعارف، وسلوكيات، تستنفر البعض منها فتصدمه الدهشة، ويستحليها آخر، فيعقد معها صفقة من الود والممارسة والاعتناق، وهكذا تتوزع أيام السفر بين هذه المشاريع كلها، فلا تفوت أحدها دون أن يكون هناك موقف منها، موقفاً رافضاً، أو متقبلا، وليس للمسافر أكثر من هذا الموقف، فإشباع رغباته المختلفة لن يكون إلا في وطنه الذي يحن عليه “حنو المرضعات على الفطيم”.
عندما نقول المدن، فلا نعني؛ فقط؛ مجموعة من البنايات الشاهقة، والشوارع الفسيحة، ولا مجموعة اللوائح الإعلانية التي تمتلئ بها الزوايا والأمكنة، ولا ذلك الصخب المتفرعة عناوينه؛ من هنا أو هناك؛ فمع كل هذا – حيث تفتقد المدن هوياتها – تأتي أخرى لتعيد إليها شيئاً مما يعزز هذه الهويات، ويعيد صور حياتها إلى مربعها الأول، وهو المربع غير المفضي إلى تراجعها وتخلفها، ولكن المربع الذي يعطيها نفساً آخر للبقاء والتميز، المدن هنا التي تتوالد مفرزة حيوات أكثر لاستيعاب من يعيش فيها، وإغراء من يزورها أيضا، ليعقد معها صفقة من البقاء أكثر، وصفقة من العود أيضا “والعود أحمد؛ كما يقال؛” فمساحات المدن التي تهدي أحلام مرتاديها، تبقى الحاضنة للجميع، فالمدن مع كل هذا تمارس غواياتها الكثيرة على زائريها، فيأتوها زائرين مرة تلو الأخرى، وفي كل مرة هي تبدو زاهية منيرة، فـ “المدن تروج لنفسها حقا”.
يقول ويل كيمليكا في كتابه (أوديسا التعددية الثقافية): “المدن تروج لنفسها باعتبارها متعددة الثقافات، وتسلط الأضواء على مناطقها العرقية، ومطاعمها العرقية لكي تجذب الزوار والنخبة من المهاجرين والمستثمرين الأجانب” –انتهى النص-.
في زيارتنا – كلنا – وخاصة في المدن الكبيرة الضخمة المخيفة أحيانا، نبحث عن شيء نحن نعرفه، شيء نحبه، شيء يعيد لنا صوراً أكثر في مدننا، حتى ولو كانت هذه الزيارات قصيرة، فعندما تحتويك مدن كبرى كنيويورك؛ مثلاً، أو فينا، أو لندن، أو طوكيو، مدن تسلب هويتك في لحظة وضع خطوتك الأولى عليها، فتذهب للبحث عن أي شيء، ولو كان صغيراً، لتجد فيه هويتك، مطعم، متحف، سوق شعبي، أية زاوية صغيرة تحتوي بساطة الأشياء، ولذلك؛ على سبيل المثال فقط؛ أول ما نعزم السفر إلى أي من المدن الكبرى هذه، نسأل عن مطاعم عربية، أو إسلامية، عن مساجد، أو مصليات منزوية هنا، أو هناك، عن معهد أو مركز عربي، هذه الأمكنة التي نستحضرها للسؤال عنها في مناسبة السفر، ليس لأننا في حاجتنا المادية إليها، ولا المعرفية فيها، ولكن لأننا سنجد جزءا من هويتنا فيها، ولذلك تحرص المدن، على الرغم من اتساعها، وعدم التفاتتها لهذه القضايا الصغيرة، كما نعتقد أحيانا، على أن تكون هذه كلها موجودة، هي تريد أن تحتوي هذا الآخر القادم إليها من أقصى بقاع الدنيا، ولذلك تتيح له إشباع رغباته مما يريد.
يحرص أبناء المدن بأن تكون مدنهم خصبة، ضخمة، مكتنزة، وبها قلب، تعيش أجواء احتفالية طوال الـ (24) ساعة، لتلبي رغبات زائرها، فالمدن الكبيرة لا تعيش فقيرة ولا جاهلة، ومن يجيئها فقيراً تستغنيه طوال فترة إقامته فيها، ومن يجيئها جاهلاً يعود عالما، فتختزن ذاكرته بهذه الصور كلها فيعاود المجيء والزيارة.