سكب الدمعات
د. علي زين العابدين الحسيني
تأتينا الأخبار متوالية عن وفاة بعض الأعلام ممن صحبتهم، أو صافوني الودّ والمحبة، أو كانت لي بهم معرفةٌ خاصة، أو حصل لي معهم لقاءٌ انْبَنت عليه صلةٌ روحيةٌ، ونظراً لتتابع الأيام بأشغالها الثقيلة أعجز كثيراً عن الوفاء ببعض حقوقهم، وتخليد ذكراهم بالإفصاح عن آثارهم الحافلة.
على أنّ المرءَ يتهيب في كثير من الأحيان الكتابة عن أشخاصٍ مرموقين معرفياً ومجتمعياً؛ لأن الكتابة عنهم تستوجب أن تكون على درجةٍ عاليةٍ من الرقي الكتابيّ، وتستلزم دراسة جوانب مختلفة من حياتهم حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأطراف متعددة عن حياتهم في مقال واحد قد لا تتعدى كلماته صفحتين.
لا يملك الشخص المحب لهم وقتئذٍ -وأنا منهم- إلا سكب الدمعات رثاءً، يجللها الحزن والأسى على فراق أمثالهم في دُنيا صارت لا تأسى على فراق أعلامها؛ لأنه قد بات واضحاً أنّ أهل المجد الحقيقيّ يموتون دون أن يشعر بهم أحدٌ، أو يأسى على فراقهم أشخاصٌ خارج نطاق أسرتهم.
هؤلاء وفاتهم -لمن تأمل- لا تنبغي أن تكون كوفاة غيرهم، فتمرّ علينا دون توظيفها كوقود ومثال لإحياء كثير من الفضائل، ومنها تقديمهم أنموذجاً نيراً في المجتمع، وقدوة صالحة للشبيبة كما يُقدم غيرهم ممن لم يبلغ مثلهم في العطاء الشامل على أنواع ٍ من الجهود النافعة، والأعمال الصادقة.
لهذا الأمر ونظائره كان أستاذنا المؤرخ محمد رجب البيومي يرى ضرورة تصدير كلمة موجزة عن مؤلفي الكتب مع كتبهم المطبوعة خاصة بعد رحيل مؤلفيها، ويشدد في ذلك دوماً؛ لأنّ في هذا الصنيع حفظَ تاريخهم من التلاشي في خضم الزمن، فمن ورّخ عَلَماً بعد وفاته فكأنما أحياه كما هو مشهور.
نعم، نتأسف كثيراً على أعلام بلغوا في عالم المعرفة مع تنوع تخصصاتهم ما بلغوا، فكتبوا وصنفوا ودرّسوا وأفادوا، ولهم من الجهود المجتمعية والمنافع العامة الشيء الكثير إلا أنّ أدوار حياتهم غابت عن عامة الناس، ولو ذُكروا لمناسبةٍ اكتفوا في التعريف بهم بقولهم: إنّه ألّف كذا وكذا، أو عمل في كذا وكذا.
هذا التقصير الظاهر في رصد حياة الأشخاص غير العاديين في المجتمع يرجع في الغالب إلى طلابهم الذين شُغلوا بأنفسهم عن أساتذتهم، ومن تمام ردّ العرفان بالجميل والاعتراف بالفضل لأساتذتك أن تؤرخ لحياتهم، فتذكر مناقبهم، وتنشر مآثرهم؛ إقراراً بجهودهم، وإكباراً لأعمالهم، وإعظاماً لفضلهم.
ولا بد من الإقرار بأنّني أدينُ لكثيرٍ من الأساتذة الذين استفاضت مآثرهم في مختلف المجالات بكثيرٍ من أوجه الانتفاع التي انتفعت بها، وأحمد ربي أنّني تعرفتُ عليهم على تفاوتٍ في هذه المعرفة، وستبقى ذكرياتي معهم ميراثاً ضخماً يفرض عليّ تسجيله، وهو ما أسعى جاهداً إليه.