قطيعة الرحم
حمد بن سعود الرمضاني أبو سلطان
بعد أن فرغ الحاج أحمد من صلاة العصر أخذ يحتسي القهوة مع زوجته ويتجاذب معها أعذب أطراف الحديث، في مساء شتوي جميل، كانا يفترشان البساط الأخضر من عشب الحديقة، بينما تشكل الزهور حول جلستهما طوقاً مزهواً بألوان متناغمة مع طبيعة سحر ربيع مزهر، بمنظره الخلاب وشذى رائحته الجذاب، وأصوات العصافير – المحبوسة في أقفاص حديدية في جانب من أركان الحديقة – يتردد صداه على جدران المكان، يدغدغ خلجات الأحاسيس والمشاعر، ويؤنس العقول ويحرك الحناجر، قطرات الماء المتساقطة من جحلة الفخار المتدلية عند بوابة المنزل تحلق بك إلى ذكريات حدائق وبساتين سحر الماضي الجميل، وكلما ارتشفت منها جرعة ماء أحسست بالحنين الجارف إلى تلك الحقبة المندثرة من أيام الصبا، واللعب البريء بين جنبات الحواري والأزقة الهامسة الضيقة كلما اشتدت حرارة الصيف، تلتجئ الأجساد المتعرقة لترتشف من مبرد الفخار ليطفئ عنها لهيب الحرارة وشدة العطش، تتسرب المياه مخترقة في طريقها تفرعات شعب الأوردة والشرايين المترامية في مسطحات وواحات الجسم اللافح بحرارة الصيف، يركن الجسد في وداعة وسكون متلذذاً ومستأنساً بحنان لمسات جريانها الطرية الحانية الباردة.
الحاج أحمد رجل متقاعد عن العمل بعد وصوله السن القانونية، بعد رحلة العمر الطويلة التي قطع فيها طريق مشوار حياته في العمل. أخذ منه سنين عمره وشبابه، قوته وصحته وأيامه، بين مشقة وراحة، وسعادة وبؤس، وفرح وترح، وبين قبول وسخط، وها هو اليوم أراد أن ينوخ بركابه عن العمل بعد تعب السنين، ويتفرغ في إصلاح وتجميل وتأثيث بيته المتواضع بما جمعه من مبالغ خلال فترة عمله، بيت طالما رسمه في مخيلته عبر السنين، وأراد أن يخرجه من طيف الأحلام إلى ميدان الحقيقة والواقع، يحتضنه هو وزوجته، رفيقة دربه في الحياة، لأنه لم يرزق بالذرية التي كان يحلم بها كل رجل ليحفظ اسمه من بعده، ولكنها إرادة الله تعالى ومشيئته، التي ارتضاها لنفسه دون تذمر أو اعتراض. إنها القناعة واليقين التام بالرضى بما قسمه الله تعالى له وقدره.
يحن الحاج أحمد إلى زيارة أخيه في القرية، وينتابه الشوق والحنين ليضع قبلة على جبينه، ويضمه بين ذراعيه و صدره، ويتحدث إليه عن قرب ليستعيد ذكريات الصغر، واللعب بين البساتين وأسوار الطين والحجر، ويطمئن على أحواله وأحوال زوجته وأبنائه ، نظرا للبعد وقلة اللقاءات التي تجمعهم، والزيارات الاجتماعية التي كانت تحتضن مجالسهم، وبالرغم أن إثنين من أبناء أخيه يعملون في المدينة التي يقطنها ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم لزيارة عمهم إلا نادراً رغم إلحاحه إليهم في كثير من اللقاءات المتباعدة والاتصالات النادرة الخجولة.
شاءت الأقدار أن يصاب الحاج أحمد بمرض شل من حركته الدائمة، وضيق على قصبات أنفاسه المتألمة، وقلل من راحته وسكينة نفسه وهدوئه، الحرارة أشعلت عظام جسده فأضعفته، واستولت على مخمل وسادته الطرية الندية فأرهقته، لتتحول راحته إلى ألم يقلق أنس ليله، وينهك طول انتظاره للحظات بزوغ الفجر، إنه كوفيد ١٩، الذي أصابه من خلال تسوقه، برغم ما اتخذه من احتراز لنفسه، أجبره لأن ينقل من واحة بيته، وزهرة روحه، زوجته المحبة ورفيقة دربه في قافلة الحياة ومجابهة عواصف الأيام والسنين، إلى مراقد المرضى في المشفى بالعناية المركزة، بعيداً عن زوجته وضياء روحه وبهجة فؤاده، مفتقداً أخيه الوحيد وأبنائه في هذه اللحظات البائسة، الذين فطنوا لأمر زيارته ولكنهم منعوا من ذلك، خوفاً من تعرضهم للعدوى، ومنعاً لعواقب أدهى، شعروا بتقصيرهم وندموا على قطيعتهم و تمنوا بأن يحظوا ولو بنظرة خاطفة تقر بها أعينهم وتستكين عليها نفوسهم، لتغسل عن كاهلهم نار الحرقة والألم، وما هي إلا أيام حتى سكتت فيها أزيز أنفاسه، وتجمد جريان الدم عن سريانه، وتوقف الجسد عن إحساسه وآلامه، وأشخصت العينان إلى بارئها، وارتفعت الروح إلى مقام خالقها، حمله فريق من المشفى إلى مثواه الأخير وأرقدوه في قبره وحيدا، لم يحظَ بطلّة قريب، ولا بقبلة أخيرة لحبيب.
ما أقصى قلوب الأرحام إن تباعدت، وما أشد النفوس حسرة إن تنبهت بعد فوات الأوان، بعد قطيعة الأهل والأحبة والخلان.
ولم يمضِ من أيام العزاء إلا القليل، ولا يزال جرح الزوجة المكلومة من فقد ونيس حياتها لم يلتئم، وذكريات المكان الذي احتضنهما لم تبرد سخونة لوعته وحزنه، لم تتحمل الزوجة المسكينة ثقل الحياة لوحدها، وحنين الماضي وخيالات المكان سيطرا على عقلها أينما قامت أو جلست، فقررت بيع البيت وأخذ نصيبها من الميراث لتشتري بيتاً صغيراً في القرية قريباً من أهلها لتقضي فيه بقية حياتها، وخصوصاً أن ورثة زوجها كانوا في عجلة لأخذ نصيبهم من الميراث.