الفوضى الإدارية ( الحلقة الثانية )
الدكتور : طالب بن خليفة الهطالي
Talib.oman@hotmail.com
كثيراً ما يتردّد على مسامعنا مُصطلح الشخصنة، والتنمّر، والمحاباة وغيرها من المصطلحات، فقد بيّن أصحاب الاختصاص في مختلف مجالات العلوم، لا سيّما علم النفس أن شخصنة المواضيع نقيض الحيادية وتقود صاحبها إلى التطرف الفكري والتشبث بالرأي وحب الذات المطلقة، ولها أضرار على المجتمع ولا تعود بالنفع، فقد قال عبد الحميد بن باديس: إذا أُعجِب المرءُ بنفسه عَميَ عن نقائصها،ولهى عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها، فعاش ولا أخلاق له، مصدراً لكلِّ شر، بعيداً عن كلِّ خير. وأول المشخصنين على مرّ الزمان إبليس لعنه الله تعالى عندما قال: ((قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ)) [القران: ص. 76] وقارون حين قال ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي )) [القرآن: القصص. 78]، و قال وهب بن منبه: احفظوا عني ثلاثا : إياكم و هوى متبعا، و قرين سوء، و إعجاب المرء بنفسه.
فمع تعدد اختلاف وجهات النظر وكثرة الآراء والاجتهادات عند البشر، وهذا واقع مسلّم به، وهو أمر تقتضيه الطبيعة البشرية وسنة كونية وهي من الضرورات الحياتية فالأصل الاختلاف فقد قال الله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [القران. هود. 118]، فقد أُثِر عند العرب التخلّق بآداب الحوار وحسن الإنصات وعدم التحيّز للرأي حال الاختلاف، وقبول وجهة نظر الطرف الآخر إن كان صائبا واحترامه إن كان مخطئا والرد عليه باللين وعدم الدخول في النوايا، فالاختلاف بين البشر ظاهرة صحية وهو من الأمور الطبيعية في كافة مجالات الحياة، والأمر الذي يفصل ذلك هو: الأسلوب والطريقة التي يسلكها كل شخص في كيفية التعاطي مع المسائل والأحداث، وكيف يعبّر عنها وعمّا يختزنه عقله وما يجول به خاطره، وما يطرأ على ذلك من فكر سلبي لعدم احترامه للطرف الآخر وظنه أن ما هو عليه صحيح وما دونه على خطأ.
لذلك نسمع عن شخصنة الحوار والأَفكار والكلام وهي مغالطة ترتكب في حقّ كثير من النّاس بما ليس فيهم؛ لاعتبارات كثيرة يراها الطرف الآخر لمجرد الاختلاف في الأفكار أو الرؤى، ولا يملك معه مواكبته ومسايرته، فيتعرض له في عمله أو شخصه أو سمعته أو أخلاقه، ويطلق على الشخصنة أيضاً بأنها: الحكم على الأشخاص من خلال أفكارهم أو أحداث منسوبة إليهم، والشخصنة لا ترتبط بزمان أو مكان ويمكن أن تتحول هذه الأفكار إلى المستوى الشخصي، وهذا أمر نواجهه في واقعنا المعاش، فقد نشرت جريدة “Southern Communication Journal” دراسة أن من يأخذون المسائل على المحمل الشخصي مرتبطين بالاجترار، وهو سلوك مرتبط بالتفكير الاكتئابي، وتعد شخصنة المسائل نوع من التهويل ونوع من أنواع القلق النفسي، ويمكن تقسيم الشخصنة إلى قسمين أولها: شخصنة التعظيم والثانية شخصنة التقزيم أو التهميش، فالتعظيم يكون عندما يعجب زيد من الناس بشخص معيّن فتجده يشيد به في المجالس والاجتماعات ويمكن أن يكون ما يذكره ليس فيه، أما شخصنة التقزيم أو التهميش فتقوم على القدح في الطرف الآخر بما ليس فيه وتقزيمه وإظهاره أمام الغير بما ليس فيه.
ولمّا كانت الشخصنة سلوكا بشريا فرديا -حسب التعريف سالف البيان أعلاه- ، ونمطا ثقافيا نقيض الحيادية والموضوعية، وهو نتيجة التغييرات في المفاهيم والنظريات المتوارثة على مر الزمان، وهي مظهر من مظاهر الفوضى الإدارية التي تنعكس سلباً على المؤسسة، وتعد من العوامل المساعدة على تهميش الكفاءات وتقزيم أعمالهم وإظهارها بمظهر سلبي، وتوفّر الشخصنة البيئة الخصبة لزرع الكراهية والأحقاد بين الأفراد، وتُبعد صاحبها عن الحقائق، وتعمي بصيرته عن الواقع، ومن انعكاساتها أنها تنشئ الفوارق بين العاملين وترفع أشخاصا وتهمّش آخرين بناء على نظرةٍ وتقديرٍ شخصي، وبالتالي فإن ذلك يكون له الأثر في تراجع العطاء والإنتاجية وقتل الطموح عند البعض؛ بناء على تهميشهم من قبل المستوى الإداري الأعلى على حساب أشخاص آخرين، وهذا يؤدي بالتالي إلى نسف الجهد المبذول من العاملين الطموحين، ويساقون لا إراديا إلى تحجيمهم في زاوية معينة بغية تقييدهم وإخراجهم من الدائرة.
إن الأشخاص الذي يرزحون تحت داء الشخصنة سواء من المسؤولين أو العاملين الذي يسخّرون طاقاتهم وقدراتهم في تلميع أنفسهم أو من يريدون إظهاره بما ليس فيه: فإن ذلك لا محالة يؤثر على الإنتاجية ويعمل على ظلم الآخرين، ويُفقَدُ معه ميزان العدالة والمساواة والتنافس الشريف، وفيه هدر للناتج العام والموارد والمكتسبات.
وتعد الشخصنة الوظيفية من أكبر المعوقات في المؤسسة، فهي تعمل على تهميش الكفاءات وإهدار الطاقات وقتل المواهب، وتعمل على تعيين أشخاص غير مؤهلين وغير كفوئين في مناصب مسؤولة ولا ريب أن ذلك ينتج عنه تدني مستوى الإنتاج الوظيفي والناتج العام ويؤدي إلى تقطيع أوصال التواصل الداخلي في المؤسسة وإنشاء الأحزاب الخفيّة، كما أن الشخصة تعمل على تسخير الطاقات ضدّ أو لأشخاص معينين، متجاهلا بذلك مصلحة العمل، والأصل في ذلك أن المناصب تعطى للكفاءات التي تمتلك الشهادات والخبرات القادرة على إحداث الفارق في المؤسسة ، دون النظر إلى الجنس أو النوع أو أي اعتبار آخر غير المصلحة العامة وهذا ما عليه الدول المتقدمة، فمن المعلوم أن الدولة تتقدم بكفاءاتها من أبنائها المخلصين، وهذا ماجاء نصا في الخطاب السامي لمولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم حفظه الله (1)، لذا نجد أن المؤسسات التي تحتضن وتقدر الكفاءات يكون ذلك معيارها في النجاح التطوير والنمو، ويكون ذلك بإتاحة المجال لهم ومشاركتهم أفكارهم ، وتهيئة البيئة المناسبة لهم لإبراز مهاراتهم ومنحهم مزيدا من الثقة؛ لإخراج مكنونات طاقاتهم مع احتفاظ الإدارة العليا بأحقية الرقابة والإشراف والتوجيه والتدخل المسبب، متى ما لزم الأمر دون التدخل غير المسبب في أعمالهم ، فبهم تتقدم الأمم وتزدهر، وبأفكارهم تكون المؤسسة مؤهلة للمنافسة الداخلية والخارجية.
فتحسين القوانين والأنظمة وتطويريها بما يتناسب، والتطور التقني الحديث الذي يشهده العالم أجمع، ومنح الثقة اللازمة للعاملين في المؤسسة، فإن ذلك مواكب للتوجيهات السامية التي تسعى لإعطاء أكبر قدر ممكن من الفرص للكفاءات في مرحلة تتطلب من الجميع العطاء للوطن قدر ما يستطيعون، وهذا لا يكون إلا بالاعتماد التام على الكفاءات العمانية، وركل كل مقومات الفساد الإداري خارج نطاق المؤسسات، والإبتعاد عن التنمر الوظيفي بغية الوصول إلى الإستقرار الوظيفي لمزيد من البناء والعطاء .
وللموضوع تتمة في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى،،،