مشاريع معرفية
د. علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
وضع الدكتور “إليوت” مدير عام جامعة هاردفرد سابقاً بالولايات المتحدة قائمة مؤلفات مكونة من مائة مجلد، ثمّ نشرتها إحدى دور النشر الكبرى آنذاك في عدة مجلدات تمتاز بأنّها على نمطٍ واحدٍ إخراجاً وطبعاً وورقاً وتجليداً، وربما يشمل المجلد الواحد عدة أجزاء مِن كتبٍ مختلفة.
قامت هذه الفكرة على أساس تعيين المصادر الأصيلة والكتب المؤسسة في غالب الفنون التي يحتاج إلى قراءتها غير المتخصصين فيها؛ إيماناً من الجامعة بضرورة تكامل المعرفة وشمولية الثقافة، وأن العلوم يخدم بعضها بعضاً، ويمكن إطلاق مسمى “ما لا يسع المثقف جهله” على هذه الكتب، فهي كتب تختلف عن غيرها من حيث التثقيف العام.
وفي أربعينات القرن الماضي أصدرت دار المعارف المصرية مشروع “اقرأ”، وقد طبعت فيه كتبٌ ثقافية شهيرة متنوعة المجالات، وفيها آثارٌ قديمة، وكتبٌ مترجمة، وأشرف على طباعتها باعتناءٍ كبار الكتاب من أمثال طه حسين، وأحمد أمين، وعلي الجارم، وعباس العقاد، وغيرهم، وكانت الدار تُصدر كلّ شهرٍ كتاباً يتسم بلغته السهلة البعيدة عن التعقيد، أو الإغراق في المصطلحات.
كان الهدف من إنشاء هذه السلسلة نشر الوعي الثقافي، وترقية العقول، والإلمام بالتخصصات المعرفية المختلفة، وهو الأمر الذي صرّح به طه حسين في افتتاحيته للسلسلة الجديدة كاتباً: “إنّ الذين عنوا بإنشاء هذه السلسلة ونشرها، لم يفكروا إلا في شيءٍ واحدٍ، هو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، لا يريدون إلا أن يقرأ أبناء الشعوب العربية، وأن ينتفعوا وأن تدعوهم هذه القراءة إلى الاستزادة من الثقافة، والطموح إلى حياةٍ عقليةٍ أرقى وأخصب من الحياة العقلية التي نحياها”.
وقريب من هذه الفكرة مشروعٌ عظيمٌ أطلقته الهيئة المصرية العامة للكتاب مؤخراً -وكم لها من مشاريعَ مفيدةٍ للمثقفين- يحمل عنوان “ما”، وهو مشروعٌ معرفيّ يتضمن أنواعاً عديدة من المعرفة، ويتيح المشروع لراغبي الثقافة وغيرهم التعرف على المداخل الأساسية للمعرفة في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والاجتماعية، ويشمل المشروع “60” عنواناً.
سعى القائمون عليه استكتاب فئة متخصصة من أساتذة الجامعات والمفكرين والكُتّاب بغية الحصول على كتبٍ معرفيةٍ مبسطة تكون في متناول الجميع، ويلقي كلّ كتاب من هذه السلسلة الضوء على فرعٍ من فروع المعرفة والفنون، ومما تمتاز به كتب المشروع أنّها قصيرة يسيرة رخيصة الثمن، فيسهل شراؤها، وتهون قراءتها، ويقوى الاستمتاع بها، ويتعدد الانتفاع منها.
وقد أخرجت الهيئة منها عدة كتب يتراوح سعر الكتاب من 3 إلى 5 جنيهات مصرية، ومنها كتابان مهمان في بابهما، وهما “ما التاريخ” للمؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشِّلق، وكتاب “ما علم الاجتماع” للدكتور أحمد زايد، ولم يقتصر الإخراج على العلوم المعهودة بل تعداها للإلمام بغيرها كالسينما والمسرح والموسيقى، فخرج للدكتور وليد سيف “ما السينما”، وكتاب “ما الموسيقى” للدكتور زين نصار.
إنّ المنشغلَ بالمعرفة الذي تمضي عليه سنواتٌ ونفسه جامدة على تخصصٍ معينٍ لا يتعداه، ولا يسمح لنفسه أن يعرف ما يدور حوله مِن معارفَ هو في أصله مقصر أشدّ التقصير يحتاج إلى تغيير نفسه، ولا يكون التغيير إلا بتوسيع دائرة عقله بمعرفة الأصول العامة في كلّ العلوم والفنون؛ بحيث يكون مثقفاً.
وقريباً من ذلك ضرورة تعيين كتبٍ متخصصةٍ لطلاب المدارس زيادة على مادتهم الدراسية تساعدهم على النمو العقلي والنهوض برصيدهم الثقافي؛ بحيث تشمل ما أمكن كلّ فرعٍ مِن فروع الإنتاج العقليّ، خصوصاً ما يساعدهم على تحديد اتجاهاتهم الدراسية المستقبلية، وما يترتب عليها من احتياجاتٍ.
ويضاف إليها كتبٌ في معرفة أساسيات المواد المدروسة، والمهارات اللازمة لكلّ مرحلةٍ دراسيةٍ، بحيث يُعاب على القائمين على أمر تدريسهم أن يتجاوز الطالب المرحلة معهم دون الإلمام بمهاراتها، ويمكن جمعها في مذكرةٍ واحدةٍ لا يسمح للطالب الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى إلا بعد تجاوزها.