تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

هل تعلّم لغة قوم يتطلب منا اكتساب ثقافة أهلها؟

سلطان بن محمد الرشيدي

يظن البعض أن اللغة مجرد وسيلة تواصل وأن إتقان لغة قوم يتأتى عن طريق تعلم مفرداتها وقواعدها فقط، لكن ما أبعد هذا الظن عن الحقيقة!
إن اللغة أعمق من ذلك بكثير. فهناك ارتباط وثيق وعلاقة متبادلة بين اللغة والثقافة. وفي هذا المقال نبين بحول الله أن إتقان أي لغة لا يمكن أن يحدث بمعزل عن فهم واستيعاب لثقافة متحدثيها. بل نذهب أبعد من ذلك ونقول على المتعلم أن يلبس أحيانا ثوب هذه الثقافة الجديدة ويسمح لها أن تؤثر فيه قليلا أو كثيرا حتى يصل إلى أعلى درجات الفهم والإتقان إن كان هذا طموحه. وهذا طبعا لا يعني تخلي الإنسان عن ثقافته الأصلية.

قبل كل شيء، يجب أن نعرّف في البداية ماذا نقصد بالثقافة؟
نعرّف الثقافة هنا على أنها “العدسة التي ترى من خلالها العالم وتفسر الأحداث وتخلق معنى لتجاربك في الحياة”. فنحن لا نرى الحياة وكل ما فيها بحيادية وموضوعية مطلقة كما نظن إلا نادرا. إنما نرى الأشياء من خلال النشأة التي تربينا عليها والمعتقدات التي تلقيناها والإطار الذي وضعه من حولنا على تفكيرنا. فكل هذا يشكل العدسة ( الثقافة) التي نقرأ بها تجارب الحياة.

يخطئ البعض حين يختزل الثقافة في التقاليد المرتبطة بالأعياد واللباس والطعام ويهمل الجانب المرتبط بفكر الإنسان. إن الإنسان المغترب قد يتخلى مجبورا عن كل هذه الشكليات لكن يحتفظ بثقافته في طريقة تفكيره وتعاطيه مع أمور الحياة المختلفة. فلا بدّ للإنسان من ثقافة. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أن الفاقد للثقافة كالمغترب الذي طال به الأمد فلا يعرف كيف يعيش في بلد غربته ولا يرى للحياة فيها أي معنى. ولهذا السبب يستحيل أن تجد قوم ولو في أعالي الجبال أو أعماق الغابات بدون ثقافة.

بعد تعريفنا لمفهوم الثقافة ننتقل الآن لعلاقتها باللغة. إن اللغة ليست مجرد وعاء لهذه الثقافة بل هناك علاقة متبادلة بينهما، حيث تؤثر الثقافة في اللغة التي نستخدمها وتؤثر اللغة في تشكيل ثقافة من يتحدثها.
البعض يطمح أن يتقن لغة قوم لكن ما زال ينظر للعالم من خلال ثقافته وهذا ضرب من المحال. يؤكد العالم جون شومان (John Schumann) “أن مدى اكتساب لغة ما يعتمد بشكل كبير على تعلم ثقافة قومها” ويؤكد أن كلما كانت الهوّة أو الفجوة الثقافية أعمق كان تعلم اللغة أصعب. فتقارب الثقافات يسّهل اكتساب اللغات.

ونضرب هنا مثلا بالوقت (time) حتى نقرب هذه الفكرة إلى الأذهان. لكل ثقافة نظرة معينة لمفهوم الوقت وهذه النظرة تنعكس في اللغة المستخدمة واللغة بدورها تعزز هذه النظرة وترسخها. فمثلا يعتبر الوقت عند متحدثي اللغة الإنجليزية “مصدر محدود” يمكن أن يستغل أو يستثمر أو يضيّع. لذلك يشبهون الوقت بالمال فيقولون في أمثالهم (time is money) “الوقت مال”.
ولأنهم ينظرون للوقت كأنه مصدر محدود، وكل مصدر محدود يعتبر “سلعة ثمينة” انعكست هذه النظرة على اللغة اليومية فتجدهم يقولون:

يستثمر وقتك To invest your time
يضيع وقتك To waste your time
ذلك كلفني الكثير من الوقت ُThat cost me a lot of time
وقتك ينفد To run out of your time
تستخدم وقتك بربح To use your time profitably
تخسر وقتك To lose your time

في كل هذه الأمثلة يمكن استبدال كلمة “وقت” بكلمة “مال”. فالوقت كالمال مصدر محدود.
في المقابل، “الوقت” في بعض الثقافات الأخرى لا ينظر إليه كمصدر محدود، أو سلعة ثمينة معرضة للنفاد. بل إنهم يرون الوقت كشيء ممتد لا نهاية له. لذلك لا تجد في لغتهم اليومية عبارات عن خسران الوقت، واستثمار الوقت، وغيرها من العبارات الشائعة في اللغة الإنجليزية.

إن المتعلم للغة الإنجليزية لا يمكن له أن يخاطب أهلها بنجاح ويفهمهم بشكل صحيح، إن كان يصر على أن يستخدم ألفاظ مستوحاة من ثقافته حين يتحدث معهم عن الوقت. فحتى يصل إلى أقصى درجات التفاهم معهم ينبغي أن يدرك كيف ينظرون هم للوقت، ويستخدم الألفاظ التي تتناسب مع ثقافتهم. فمثلا إذا قلت للإنجليزي “انتظرني عشر دقائق” وأتيته بعد نصف ساعة هنا يتعرض هو للخسارة، فالوقت مصدر محدود وسلعة ثمينة.

ماذا عن الوقت في ثقافتنا الإسلامية؟ لا أظن توجد ثقافة على وجه الأرض لها تاريخ مشرف في تعاملها مع الوقت مثل الثقافة الإسلامية. ومن يتأمل سورة العصر يعلم أن مرور الوقت بدون استثمار في العمل الصالح خسارة لا تعادلها خسارة.
لكن يبدو أن هذه الثقافة تغيرت وتبدلت. فالبعض عندنا لا يرى الوقت بهذه الطريقة. فلما تغضب على شخص لأنه تأخر عليك (قال لك خمس دقائق وفي الحقيقة يقصد نصف ساعة) يرد عليك ويقول ” أيش خسرت إذا انتظرت شوي! الدنيا ما بتطير!”. هو لا يرى أنك خسرت شيء أبدا! ولو كان يرى أن الوقت سلعة ثمينة لا يصلح هدرها لاعتذر إليك أشد الاعتذار، أو لكان دقيقا في وقته كما هو دقيق في حساباته المالية. فلو بعت لشخص شيء بريالين وبعدها عرف أنه يباع بريال لغضب عليك لأنك سببت له خسارة في ماله الذي يعتبره مصدر محدود وثمين.

يصف البعض منا كل من يحرص على وقته أشد الحرص ويلتزم بمواعيده على أنه “بريطاني” ولو لم يكن مفهوم الوقت عندنا غير مفهوم الوقت عندهم لما وصفناه بهذا الوصف. فهو يتبع ثقافة غير ثقافتنا ولذلك نصفه بأنه بريطاني! ونحن هنا لا نعمم فلا ينطبق ما قلناه على كل أحد سواء في ثقافتنا أو ثقافتهم. بل نتحدث عن السائد والشائع.

خلاصة الكلام أن من يريد أن يتواصل بشكل ناجح وفعال مع متحدثي أي لغة أخرى يجب أن يدرك أن نظرتهم للأشياء غير نظرتنا نحن، وأن العدسة التي نرى من خلالها العالم تختلف عن العدسة التي يرون من خلالها العالم ولولا خشية الإطالة لضربنا أمثلة عديدة بالإضافة للوقت ولكن نكتفي بهذا القدر.

المصادر:

1- Brown, H. (2000). Principles of Language Learning and Teaching. White Plains, NY: Pearson Longman.
2- Lakoff, G & Johnson, M (2003). Metaphors we live by. Chicago: The University of Chicago Press.
3- Schumann, J. H. (1986). Research on the acculturation model for second language acquisition. Journal of Multilingual and Multicultural Development,7(5), 379-392.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights