الأصدقاء الفقراء .. ثمة علاقة
حمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
كثيرًا ما توقعنا الصدف في الالتقاء بأصدقاء كانوا “زملاء” لنا في أيام الدراسة منذ المراحل الأولى، خاصة مرحلتي الابتدائية والإعدادية – حسب نظام التعليم قبل مسميات حلقات التعليم الحديثة – حيث المسافة الزمنية أكثر بعدًا عن الثانوية أو الجامعة، في هذه اللقاءات، والتي غالبًا ما تكون عابرة، في مناسبة ما، تمتحن الذاكرة فيها من خلال تزاحم الأسئلة، وأقرب سؤال يطرح في مثل هذه اللقاءات “كيف حالك أستاذ … هل تذكرني؟ كنا مع بعض في مدرسة (…) الصف (…)؟” ويبدأ سيل الذكريات يتقاذف عبر كل هذه السنين الطوال التي مرت، منذ ذلك العهد الطفولي؛ حيث لا تزال الأنفس تعيش فطرتها النقية الأولى، إلى هذا العهد الـ “عجوز”؛ حيث غارت القوى وارتبكت الذاكرة، وتهلهلت العلاقات، واضمحلت الكثير من الصور التي كانت “شبابًا” ذات يوم، فالصور لم تعد ذاتها، حيث كسا الوجه الشعر الأبيض (رأسًا وذقنًا) وإن حاول البعض إخفائه بمجموعة الأصباغ المتداولة “وهل يصلح العطار؛ ما أفسد الدهر”.
وفي هذه المواجهة، غير المتكافئة؛ أحيانًا، تبدأ الصور التي تحتفظ بها الذاكرة تعود من رحلتها الزمنية البعيدة، ولكن عودتها لا يغير من الأمر شيئًا، فهي مجرد لحظات تستعاد فيها الذكريات، التي كانت جميلة، فلا يلبث الأمر أن يتمركز كل واحد فينا في موقعه الحالي حيث ( المناصب والألقاب والرتب)، التي تحول، بلا شك، عن الالتحام من جديد في خضم هذه الصور الذهنية القديمة، فواقع الحال لا يسمح بأكثر من هذه اللقاءات القصيرة الـ “عتابية” أو الـ “تندرية” أو الـ “ستعراضية” وإن حاول بعض المخلصين أن يعقد لقاءات مطولة يدعى فيها كل أفراد المجموعة الصفية، أو المرحلية في إحدى الحدائق أو الأماكن العامة، ومن أستطاع أن يقيم ذلك مرة واحدة، لم تتكرر للمرة الثانية، والسبب هي ثيمة (المناصب والألقاب والرتب).
“سأل صحفي أحد كبار رجال الأعمال الإنجليز العصاميين – حسب المصدر -: “ألا تفكر وقد أصبحت تملك الملايين في أن تزور أو تراسل أصدقاءك القدامى في عهد الفقر؟” فأجابه رجل الأعمال: “كان يسرني جدًا أن أفعل هذا، ولكني – مع الأسف –حينما كنت فقيرًا لم يكن لي بالطبع أصدقاء”.
وإن كنت أختلف مع هذا الرد، فأكثر مراحل العمر بها أصدقاء هي مرحلة الفقر، ذلك لأن الفقراء، قياسًا بالواقع، هم الأكثر عددًا، ولأنهم يعيشون نفس الواقع، ويتألمون بنفس الأسباب، ويكونون على نفس المستوى الاجتماعي، فهم الأقرب دائمًا إلى بعضهم بعضًا، فهم الأقرب محنة، والأنقى سريرة في تلك اللحظة، لبساطة الحياة التي يعيشونها ويسوقونها فيما بينهم، أما عندما ينزل الخير على أحدهما، فسرعان ما ينكر واقعه الذي كان، ويتعالى عن مجموعة الروابط التي كانت تربطه بالواقع الذي كان، فقد غدا في مستوى لا يسمح له – حسب تفكيره – أن يعيد أدراجه إلى مرحلة هي في حكم الماضي، إلا الاستثناء، والاستثناء هنا قليل جدًا، وقد يكون نادرًا.
صحيح؛ أن في مستويات (المناصب والألقاب والرتب) علاقات كثيرة، ولكنها معقدة، وتخضع لاشتراطات صعبة، لا يتحملها أي أحد، لأن في دواخلها الكثير من المواقف التي تلزم أطرافها؛ في أغلب الأحيان على التنازل عن القيم والقناعات، وذلك لترجيح المصالح الخاصة، فالصداقة هنا يجب أن تخضع لمتطلبات هذه المستويات من العلاقات الاجتماعية، ومن يدخل في معتركها يصعب عليه الخروج منها، لدسامة مذاقاتها، حيث تسيل اللعاب، ولمخاطبتها لنزعات “الفردية” من حيث (المناصب والألقاب والرتب) ومن يخرج بأقل الخسائر منها بعد عمر طويل من المكوث “القلق” فذلك الناجح بـ “امتياز”.