2024
Adsense
مقالات صحفية

بين الرحلة الأولى والأخيرة

قصة ما بين ثلاث رحلات

طالب المقبالي
muqbali@gmail.com

رحلة الهجرة

تمثل رحلة الهجرة من الرستاق إلى زنجبار

رحلة العودة

رحلة العودة من زنجبار إلى الرستاق

الرحلة الأخيرة

الرحلة الأبدية إلى الدار الأخرة

خرج من الرستاق وهو شاب يافع ليبحث عن لقمة العيش بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بعام، وكان عمره آنذاك ستة عشر ربيعاً.
الوضع كان في غاية الصعوبة في ذلك الوقت، ليس في عمان وحدها وإنما في سائر البلدان العربية والإسلامية.
فكانت زنجبار هي قبلة العمانيين الأولى في الترحال والهجرة، فزنجبار كانت تحت حكم الإمبراطورية العمانية آنذاك.
فبداية المشوار صعبة منذ الخطوات الأولى، حيث لم يحمل حقيبة ملابس كما هو الحال اليوم، فالحقيبة كانت صرة من القماش ربما كانت تضم الزاد الذي حمله معه آنذاك والمتمثل في كسرة خبز جاف وبضع حبات من التمر ليقتات بها في الطريق حتى يبلغ مرسى البواخر والسفن.
والراحلة من الرستاق آنذاك ربما الجمال والحمير، أو سيراً على الأقدام لبضعة أيام وليال .
لقد فاتني أن أسأله عن تفاصيل رحلته الأولى، أو ربما تفاديت أن أسأله عن ذلك حتى لا أقلب عليه المواجع.
أخي الغالي عبدالله الذي رحل عن دنيانا الفانية كان يتمتع بصحة جيدة رغم كبر سنه، فقد كان ينتقي طعامه ويتناول ما يراه صالحاً ويسد رمقه متبعاً هدي الرسول عليه السلام ” ثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنفسك ” ولهذا حافظ على صحته حتى أصيب بمرض كوفيد19 رغم التزامه البيت وعدم الخروج وامتناعنا عن زيارته لأشهر عديدة منذ الجائحة.
استقل السفينة مع مجموعة من المهاجرين العمانيين وهو لا يعلم أين يتجه وماذا ينتظره هناك.
لقد صُوّر إليه أن زنجبار هي جنة الدنيا ومنبع الأرزاق والخيرات، وكانت بالفعل كذلك في ذلك الزمان.
مضت سفينتهم تمخر عباب البحر في رحلة استغرقت عدة أشهر ، وكانت رحلة محفوفة بالمخاطر، وقد تعرضت لعواصف عاتية خلال رحلتها الطويلة.
لقد رست السفينة على مرسى السفن في زنجبار بمقربة من بيت العجائب، وهو واحد من ستة قصور بنيت من قبل السلطان العماني برغش بن سعيد ثاني سلاطين زنجبار.
فما إن وطئت رجله، رحمة الله عليه أرض زنجبار حتى بدأ البحث عن حياته الجديدة، كل هذا حدث قبل ولادتي بخمسة عشر عاماً.
لقد كبرت وعرفت بعد أن بدأت في معرفة وتذكر الأشياء، أن لي أخاً مغترباً في إفريقيا منذ ربع قرن، وقد اطلعت على مراسلاته لوالدي -رحمهما الله-، وقد بدأت بعد ذلك في مراسلته بنفسي بواسطة البريد الذي افتتح في ولاية الرستاق في سبعينيات القرن الماضي، وبدأت مع والدي بالسعي له للعودة إلى البلاد، فكانت الأمور أشبه بالمستحيل وكأننا نبحث عن إبرة في كومة قش.
تواصلت المراسلات بيننا، وكان على فترات متباعدة يبعث بصوره وصور أولاده من أجل طلب استخراج جواز سفر له ولأولاده للعودة إلى أرض الوطن.
أخي رحمه الله ، تزوج هناك وأنجب ثلاثة أولاد، ثم توفت زوجته ، وتزوج من زوجة أخرى من رجل مهاجر وهو من نفس القبيلة، ومن ولاية الرستاق وتحديداً من وادي بني هني.
لقد أنجب منها طفلة هناك ، كما أنجب بقية أولاده بعد عودته من المهجر ، وهم خمسة أولاد ذكور وبنتان ، أسأل الله أن يبارك فيهم .

بعد فشل المحاولات السابقة في استخراج جواز سفر له ولأولاده جلست مع والدي رحمه الله، فقلت له لا حل لعودة أخي إلا بالالتماس من جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه، فقال رحمه الله، وكيف الوصول إلى ذلك، فقلت له الحل بيدي بإذن الله.
توجهت إلى وزارة الداخلية أواخر عام 1985 فضربت موعداً لي ولوالدي لمقابلة معالي السيد وزير الداخلية آنذاك، وفي مطلع عام 1986 تقابلنا مع معاليه، وكنت الأكثر تحدثاً مع معاليه والأكثر شرحاً للظروف التي يمر بها أخي وأسرته في المهجر.
طلب مني معاليه أن أكتب خطاباً باسم والدي موجهاً إلى جلالة السلطان، وفي اليوم التالي توجهت إلى وزارة الداخلية وسلمتهم الخطاب.
فبعد أقل من شهر استدعيت إلى الوزارة وطُلبت مني بعض الوثائق، وهي شهادات عدم التجنس والشهادة الزوجية وشهادات ميلاد الأولاد وصور شمسية للجميع.
استبشرت خيراً، ومن فوري سافرت إلى زنجبار حاملاً الآمال لأخي ولأسرته.
لأول مرة تطأ رجلي ذلك المكان، فأخي كان يسكن في المناطق الزراعية والتي تعرف بالشوانب باللغة السواحلية وتسمى ” مويرة” وكان البيت وسط حديقة غناء بها مزروعات كثيرة من القرنفل والهيل والبن وفواكه الأناناس والمهوجو وغيرها، وكانت تلك المزرعة تشكل اكتفاءً ذاتياً للمعيشة.
والذي لفت انتباهي أن علم تنزانيا مرفوع على سارية في المنزل، فسألت عن سر رفع ذلك العلم، فأخبروني أن أخي يشغل منصب مسؤول أو شيخ على تلك المنطقة وهو ما يعرف باسم “بالوز” أي شيخ أو رشيد، تلجأ إليه الحكومة هناك في حل مشكلات الأهالي وغيرها من المهام.
بعد الراحة من عناء السفر أخبرت أخي بأنني قادم إليهم لأخلصهم من عناء الغربة والبعد عن الوطن، فاستعرضت عليه الوثائق المطلوبة ، فقال: واليأس والإحباط يملآن قلبه، هذه المستندات التي تطلبها مني الآن أرسلتها لكم عشرات المرات مع كل قاصد إلى عُمان، ولست على استعداد لطلبها واستخراجها.
حاولت إقناعه بأنني أتيت بنفسي لأطلبها وأحملها، وأكدت له بأن هذه المرة تختلف عن كل المرات السابقة، ولا تحمل هم المصاريف فأنا أتكفل بها.
تحمس أولاده، وأنسابه، وتولوا المهمة، وخلال أيام بسيطة تم إحضار الوثائق المطلوبة وتم اعتمادها من الجهات المعنية بمصادقة الوثائق من الجانبين التنزاني والعماني.
غادرت زنجبار والفرحة تملأ قلبي لأنني التقيت أخي لأول مرة ، والتقيت بأولاده.
في اليوم التالي من وصولي إلى عُمان توجهت إلى وزارة الداخلية، وسلمت الوثائق، وبعد قرابة أسبوعين تم الاتصال بي من إدارة الهجرة والجوزات بالقرم آنذاك لاستلام الجوازات.
استلمت ستة جوازات والدنيا لم تتسع لي من الفرحة، وكنت أتمنى لو طرت من لحظتها إلى زنجبار.
عدت إلى الرستاق في نشوة لا أستطيع التعبير عنها، فدخلت على أبي وسلمته الجوزات فاغرورقت عيناه بدموع الفرح، وعلى الفور سلمني قرابة ألف ريال ونصف الألف، وقال هيا سافر إلى أخيك وآتني بهم جميعاً.
فاستحضرت حينها الآية الكريمة على لسان سيدنا يعقوب عليه السلام، حيث قال الله تعالى في سورة يوسف :(فَصَبۡرࣱ جَمِیلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَنِی بِهِمۡ جَمِیعًاۚ إِنَّهُ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ) صدق الله العظيم.
في شهر يوليو من عام 1987 سافرت إلى زنجبار وأحمل معي ستة جوازات عمانية.
وصلت إلى زنجبار وتوجهت بالسيارة إلى مويرة حيث يسكن أخي فسلمت عليه، ولم أخبره بأنني آتٍ ومعي الجوزات، وهو يظن أنني عدت إليهم بقصة جديدة من قصص المعاناة بطلب الأوراق والمستندات، وما إن استرحت من عناء السفر حتى أخرجت من حقيبتي الجوازات بحضور زوجته وأولاده وسلمته إياها.
لم يصدق ما رآه واغرورقت عيناه بالدموع فقام باحتضاني بقوة ولهفة، وسط هتاف الأولاد معبرين عن فرحتهم بهذا الحدث الذي طال انتظاره.
في تلك البلاد وبعد تقطع سبل العودة يعتبر الجواز الأحمر كما يطلقون عليه هو الباب المفتوح إلى السماء للخلاص من الذل والقهر والفقر والعوز الذي تعيشه الأسر العمانية هناك والتي تقطعت بهم سبل العودة إلى الوطن.
في الغد جاء جميع الجيران يباركون له ويشاهدوا بأم أعينهم الجواز الأحمر ويتلمسونه بأيديهم ويضمونه إلى صدورهم، إنه ريحة الوطن الذي حرموا منه عشرات السنين، ومنهم من قضى نحبه هناك.
وكهدية يقدمها لي أخي نظير هذه الهدية الغالية التي قدمتها له أخذني في زيارة للجزيرة الخضراء ” بيمبا” والالتقاء بالوالد خليفة المقبالي جد أولاده رحمه الله، وقد مكثنا هناك يومين، ثم عدنا إلى جزيرة زنجبار، وقد بدأت تحضيرات العودة وبيع الممتلكات، ولم يستغرق ذلك سوى بضعة أيام.
أحد أبناء أخي كان لاعباً مهماً في منتخب البلاد، وقد أقيم له حفل وداع كبير.
لقد ضيفني جيرانه في بيوتهم، وكانت الضيافة عمانية خالصة.
ذهبت مع أخي إلى السوق لصرف المبالغ بالعملة المحلية وحمل معه قفة كبيرة من سعف جوز الهند، فقلت له ماذا تريد بتلك القفة، فقال هيا بنا ستعرف لاحقاً، وأخذ معه عصا.
دخلنا إلى المصرف فإذا بالمبالغ تملأ تلك القفة، فحملها أخي خلف ظهره معلقة بالعصا، ثم ذهبنا لشراء تذاكر السفر.
وتم تحديد موعد السفر للعودة، وفي رحلة السفر أحداث كثيرة لا أريد التطرق إليها، فرحلة الخمس ساعات استغرقت ستة وثلاثون ساعة.
بعد المعاناة من الرحلة الطويلة الشاقة وصلنا إلى الرستاق وكان والدي رحمه الله ينتظرنا بلهفة وشوق في مكتبته بانتظار اللقاء التاريخي بعد غياب دام أربعة عقود بالتمام والكمال، فدخلنا عليه والصورة في الأعلى هي للقاء الأول بين الوالد وأخي رحمهما الله.
عاش أبي رحمه الله ثلاث سنوات فقط بعد هذا اللقاء، بينما عاش أخي رحمه الله بعد هذا اللقاء، وبعد عودته إلى وطنه ثلاثة وثلاثون عاماً بعد عقود مريرة في المهجر حتى رحيله من الدنيا قبل يومين.
فبعد عودته إلى الوطن عمل بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إماماّ في مسجد العالي ببيت القرن، ثم نقل إلى مسجد حي النهضة، حتى أحيل إلى التقاعد.
وقد عاش أخي رحمه الله، محبوباً لدى الجميع لما يتمتع به من دماثة خلق ورحابة صدر، وابتسامة دائمة لم تفارق محياه، وكان كريماً ودوداً محباً للخير يحترم الصغير قبل الكبير، وكان يبادر بزيارة كل من غاب عنه طويلاً، كما كان يبادر بزيارة الأرحام والحرص على الأسبقية في تقديم التهاني في الأعياد والمناسبات.

اللهم طيب ثراه وأكرم مثواه واجعل الجنة مستقره ومأواه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights