اللامركزية الإدارية ودَورها في التنظيم الإداري (الحلقة 1)
د. طالب بن خليفة بن سيف الهطالي
Talib.oman@hotmail
الحمد لله ذي الشأن الباهر، والسلطان القاهر، والبرهان الظاهر، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ذكر (مواسي، 2016) أن القاضي عبدالرحيم بن علي البيساني قال: “إني رأيتُ أنه لا يكتبُ أحدٌ كتاباً في يومه إلا قال في غَدِه، لو غُيِّر هذا لكان أَحسن، ولو زِيد هذا لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليلٌ على استيلاءِ النقص على جملة البشر” إنتهى، ولا رَيب أنّ الوظيفة تكليفٌ ومسؤولية قبل أنْ تكون نُفوذاً وسُلطة، وهي خدمةٌ وواجبٌ وطني، وهذا ما بيّنه المُشرّع في النظام الأساسي للدولة في المادة (12) “الوظائف العامة خدمة وطنية تُناط بالقائمين بها، وتَستهدف موظفِي الدولة في أداء وظائفهم للمصلحة العامة وخدمة المجتمع، والمواطنون متساوون في تولّي الوظائف العامّة للشروط التي يُقرُّها القانون” (مرسوم، 101/96)، وقال الحقّ سبحانه وتعالى تأكيداً على أنّ العمل فريضة إسلامية لا تقلّ مستوىً عن العِبادة لأنّ فيها تحقيقاً للحِكمة وأصل خَلق الإنسان ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ (القرآن: التوبة: 105).
ولا يَخفى أنّ التنظيم الإداري يُعدّ مِن المَواضيع التي شَغلت الكثير مِن المُفكّرين والقياديين، فمع التزايد الواضح للأعمال في المؤسسات المختلفة كانت الحاجة ضرورية لوجود أسلوبٍ تنظيميّ يكون المحوَر في ضبط العلميات بصورةٍ منظمةٍ ودقيقة ويكون المَرجع للسيطرة على الأعمال في المؤسسة، وقادر على التأقلُم مع تقلّبات العمل ومواجهة مؤثّراته.
ويُعتبر التنظيم الإداري مِن العوامل الرئيسية لضبط العملية الإدارية، فمِن خِلاله يتحقّق التخطيط المُنظم، وإنشاء الهيكل التنظيمي، وتحديد أهداف المؤسسة وبيان الصلاحيات والاختصاصات الوظيفية لها ولا يكون ذلك إلا مِن خِلال التنظيم الإداري،(باشيوة وآخرون، 2013) إذ لا يمكن للعاملين أنْ يباشروا أعمالهم إلا مِن خلال الصلاحيات الممنوحة لهم والمبيّنة في بطاقة الوصف الوظيفي المتّفقة مع الاختصاصات الوظيفية حسب المستوى الإداري.
فالتنظيم الإداري يسعى لاستثمار الموارد المتاحة (المادية والبشرية) وصولاً للهدف الذي تسعى المؤسسة لتحقيقه، فهو يقيس الأداء البشري من خلال تقييم الأداء والإنتاجية، ومدى المساهة في تطوير الأعمال (باشيوة وآخرون، 2013)، كما أنه عملية تنظيمية توجيهية تسعى إلى توجيه العنصر البشري ضمن أطُر معيّنة ينطلق من الهيكل التنظيمي للمؤسسة المسؤول عن توزيع المَهام الوظيفية على العاملين مِن الأعلى إلى الأسفل، لتنفيذ المهام المُوكلة إليهم بجدارةٍ واقتدار، كما أنه يقيس حجم الإنجاز وجودته، ويسعى لإنجاز الأعمال بأقصى سرعة وأعلى دقة وأقل كلفة.
ولا يخفى أنّ اللامركزية الإدارية وهي تأتي ضمن التنظيم الإداري تقوم على تشتيت الصلاحيات على المستويات الإدارية المختلفة بما يتناسب والاختصاص الوظيفي بغية توفير المناخ المناسب لإنجاز الأعمال الموكلة إليهم، وعدم تجميعها في مكان وسلطة واحدة (بوقلمون،2016).
ويمكن القول أنَّ التنظيم الإداري وهو أحد موضوعات القانون الإداري، الذي هو بطبيعة الحال فرعٌ من فروعِ القانون العام الداخلي، المنضوي ضمن القواعد القانونية المنظِّمة لتشكيل السلطات العامة وتحديد صلاحياتها وعلاقاتها، هو من المقومات الأَساسية في علم الإدارة، وشكل من أشكال الإدارة العصرية الحديثة، فمع توسّع وتشعّب المهام الإدارية المضطَلِعَةُ بها الدول، ورغم حداثة نشأة القانون الإداري ونتيجة للتطور المتسارع في العالم خاصة في الجوانب الإدارية، ومع انتشار العولمة والخصخصة ازدادت الأهمية للقانون الإداري، فأصبح على المؤسسات مواكبة التطور وملاحقة الركب العالمي.
فمِن ضِمن المتغيرات المرتبطة بالجوانب الإدارية في عمل الإدارة الحديثة هي تبنّي تطبيق مفهوم اللامركزية الإدارية، فقد درج أغلب فقهاء القانون الإداري (حسن، 2010) على تعريفه بأنه ذلك الفرع الذي يتضمن القواعد القانونية التي تحكم السلطات الإدارية في الدولة، من حيث: تكوينها، وأنشطتها، بوصفها سلطات عامة تمتلك حقوقاً وامتيازات استثنائية في علاقاتها بالأفراد، في حين عرّفه البعض الآخر، بأنه: قانون يتضمن قواعد تحكم إدارة الدولة من حيث تكوينها، وأنشطتها باعتبارها سلطة عامة (المقلي،2002) ولمّا كان التنظيم الإداري مسحوب على منظومة القانون الإداري فقد تباينت مفاهيم كلمة تنظيم رغم كثرة الدراسات، فقد تُستخدم كلمة تنظيم في مجالاتٍ مختلفة، ويكون معناها بناءً على وضعها في الجملة، فتُستخدم أحياناً بمعنى التخطيط كاستخدامها في المجال الأُسَري، يُقال تنظيم الأسرة، ويُقصد بها تخطيط الأسرة، أو في المجال العملي يُقصد بها إعادة التنظيم وهو الهيكل التنظيمي للمؤسسة.
إنّ التنظيمات الإداريَّة هي الإجراءات التي يتّخذها المسؤولون لإصلاح المنظومة الإدارية وتنظيم أمورها، فإذا ما تطرّقنا لتعريف التنظيم الإداري، نجد أنّ هناك فرع آخَر من فروع القانون، يأتي مكمِّلاً له وهو اللامركزية الإدارية القائمة على تشتيت الصلاحيات ومنح التفويضات المناسبة حسب المستوى الإداري وطبيعة العمل بما يحقق معه إنجاز الأعمال على النحو المطلوب، أمّا المركزية فنجد في مفهومها العام أنها: التوحيد وعدم التجزئة، وفي المجال الإداري عرَّفتها (سمية الرحيلي، 2009) بأنْ تأخذ الحكومة على عاتقها إدارة كافة المصالح والمَرافق العامَّة، وأنّ رؤساء الوحدات ومديرو الدوائر يعملون تحت إشرافها المباشر، حسب اختصاص كل مؤسسة، ومعنى ذلك هو: ارتباط تبعية تلك الفروع برباط التدرج الإداري وخضوعها للسلطة المركزية لقواعد وإجراءات واحدة فقط.
وبالنظر للسلبيات التي ظهرت من خلال تطبيق النظام المركزي، والذي نشأَ على غراره في علم الإدارة نظام آخر يَطلق عليه اللامركزية الإدارية اندفعت إليه الكثير من المجتمعات، نتيجة للسلبيات التي أفرزها النظام المركزي، حيث تفويض الصلاحيات وتمكين العاملين في مختلف الحلقات الإدارية في أعمالهم، وتمكينها من المشاركة في اتخاذ القرارات وحرية تسيير الأعمال اليومية بانسيابية، فقد ازداد الاهتمام باللامركزية الإدارية في دول العالم المتقدم؛ نتيجة لزيادة التفاعلات بين الأفراد والمجموعات، وتعدد حاجاتهم وتطلعاتهم وتوقعاتهم، وزيادة حجم وتضخّم الأجهزة والمنظمات بصورةٍ مذهلة، حيث ترتبط سياسة المركزية واللامركزية الإدارية بعملية تفويض السلطات على مختلف أنواعها: (التكليف، والتفويض، والتخويل) في التنظيم الإداري، فكلما زاد تفويض السلطة زاد معه فعالية تطبيق اللامركزية، لأنّ تفويض السلطة أمر أساسي لنجاح أي منظّمة، (باشيوة وآخرون، 2013) فهي تعني التوزيع المنظم لمستويات التفويض والتمكين، إذ أنه لا يمكن للإدارة العليا القيام بكافة الأعمال والمهام وتحمّل كافة الأعباء دون وجود مساعد، لذلك سعيتُ هنا لبيان أهمية اللامركزية الإدارية ودورها في التنظيم الإداري للموارد البشرية.
لقد جذب التنظيم الإداري انتباه الكثير من المنظِّرين والباحثين في مختلف المجالات، فقد أضحى من الظواهر البارزة في المجتمعات الحديثة، ويعدّ التنظيم الإداري قديم النشأة قِدم البشرية، فمع تزاوج الأزمنة وتوالد الحضارات، وتغيّر أحوالها، تغيّر معها مفهوم التنظيم من مجموعات صغيرة في عددها بسيطة في أعمالها إلى مجموعات كبيرة ومعقّدة، وامتد ذلك إلى الحكومات، فكان لتزاحم الأعمال والنمو المضطرد في عالم التقنية الدور الرئيسي لإنشاء أفرع خارج المركز الرئيسي خارج نطاقه ومنح الصلاحيات المناسبة التي تمكِّن القائمين عليها من تسيير الأعمال اليومية، واتخاذ القرارات المناسبة بموجب الصلاحيات الممنوحة لهم دون الحاجة للعودة إلى المركز الرئيسي إلا في القرارات والمسائل الأساسية، ويطلق على هذا العمل بالمصطلح العلمي باللامركزية الإدارية التي بيّنها (لينارد د.وايت، 2003) بأنها نقل السلطة، وتشتيتها بين المستويات الإدارية المختلفة، وأضاف (واجانا، 2016) أنّ اللامركزية الإدارية تعزِّز ديمقراطيّة النظام الإداري وتحديداً السلطات المحلية.
وتعتبر سلطنة عُمان من الدول السَّباقة في تطبيق نظام اللامركزية الإدارية، حيث كانت الإدارة المحلية هي النظام السائد في السلطنة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، فمع تولى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد البوسعيدي -رحمه الله – الحكم في الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1970م فإن أول ما شرع فيه هو بناء الدولة العصرية الحديثة، وإعداد الخطط التنموية الشاملة لتواكب النمو والتطور العالمي في المجالات المختلفة، فقد مرّت سلطنة عُمان بمراحل تطوَّر مختلفة في تطبيق التنظيم الإداري في جهازها الإداري من أجل توفير العيش الكريم للمواطن العماني، وتهيئته لمواجهة تحديات الحياة العصرية (الخصيبي، 2004)، ويعدّ الخطاب الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن البوسعيدي-رحمه الله- في ذات العام الذي تقلَّد فيه مقاليد الحكم مخاطباً فيه الشعب العماني، بأنه سيعمل على جعل الحكومية العمانية عصرية، ويعدّ هذا الخطاب الانطلاقة لتحريك عجلة التنمية الإدارية في السلطنة فقد توالت التشريعات والأنظمة التي شملت تنفيذ الخطط التنموية، وتوفير الخدمات الأساسية لتلبّي مختلف المتطلبات وتغطِّي كافة الجوانب الحياتية من تعليم وصحة وتعمير وتنمية الموارد البشرية وتنفيذ الخطط التنموية المختلفة، فكان المرسوم السلطاني رقم ( 26/75م ) بإصدار قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة المتعلق بهيكلة الجهاز الإداري للدولة بصورته الرسمية،(الجريدة الرسمية:1975، 83) والمرسوم السلطاني رقم (6/91م) باعتماد التقسيم الإداري للدولة (الجريدة الرسمية:449،1991) الذي حدّد بموجبه المناطق الرئيسية والولايات التابعة لها، عقبه إصدار المرسوم السلطاني رقم ( 114/2011م) بشأن اعتماد التقسيم الإداري للسلطنة وتنظيم عمل المحافظين الذي ألغى بموجبه المرسوم السلطاني رقم (6/91م) والغى مسميات المناطق لتصبح محافظات، وحدّد اختصاصات المحافظين، فقد أعطى دافعاً مباشراً ودعامة قوية لتطبيق مفهوم التنظيم الإداري، ومبدأ اللامركزية الإدارية، ويُعتبر هذا العمل استكمالاً لما جاء في المراسيم السابقة(الجريدة الرسمية،949،2011). يُعتبر ذلك نقلة نوعية لترسيخ القواعد الأساسية لمفهوم التنظيم وخطوة لتطبيق نظام اللامركزية الإدارية.
فالخطط التنموية ليست غاية بحدّ ذاتها، بقدر ما هي وسيلة لبناء الإنسان، الذي هو أداتها وصانعها، ولا ينبغي أن تتوقف عند مفهوم معيّن بلْ يجب أن تُسهم في تقدّمه وتطويره وتحسين معيشته ليكون قادراً على الإسهام في بناء وطنه بجدارةٍ ووعيٍ ثابتين، وهذا ما أكّده سلطان البلاد -رحمه الله- في خطاباته للشعب على أنهم السلاح الفاعل لديمومة التنمية في البلد، ودعامته الأساسية في البناء والتطوير (اليعقوبي، 2011).
إنّ الإهتمام المتزايد بالإدارة والتركيز على تنمية القيادات الإدارية والتنمية الذاتية وما يصاحبه مِن متطلبات لكلّ مِن المديرين والعاملين، ومنح الأخير الاستقلالية، من خلال منحه السلطة اللازمة ليتمكن من الإدارة الذاتية في بيئة العمل، ويتحقق ذلك من خلال حصوله على الدعم من الإدارة العليا والتحفيز والتشجيع المستمر، وهذا يعني أن يتبنَّى المسؤول منهجًا يوفِّر التشجيع والدعم لبناء الثقة لدى العاملين من أجل تحقيق الأهداف المرجوة. (اليعقوبي، 2011)
للموضوع تتمة في العدد القادم……..
المراجع العربية:
القرآن الكريم.
الجرائد الرسمية.
باشيوة، لحسن عبد الله، وآخرون .2013. التميز المؤسسي مدخل الجودة وأفضل الممارسات مبادئ وتطبيقات. عمَّان: ط1. مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع.
بوقلمون، صبرينه .2016. اللامركزية الإدارية في دول المغرب العربي (الجزائر، تونس، المغرب) دراسة مقارنة. رسالة ماجستير غير منشورة. جامعة الجزائر1.الجزائر:
حسن، حسام إبراهيم(2010). إدارة الموارد البشرية في القطاع العام. دار البداية للنشر والتوزيع. عمَّان:
الخصيبي، أحمد بن سالم. 2004. نظام المحافظات والولايات بسلطنة عُمان. المطابع الذهبية. رقم الإيداع:24/2004. الطبعة الثانية. سلطنة عُمان:
الرحيلي، سمية بنت سليمان.2009. لإدارة بالأهداف بجامعة ام القرى بمكة المكرمة فاعلية التطبيق والمعوقات من وجهة نظر القائمات بالعمل الإداري بالجامعة. جامعة أم القرى: مكة المكرمة:
فاروق مواسي.2016. تصحيح مقولة تفشّت بين العلماء والأدباء نسبت للأصفهاني. موقع جريدة الرياض. (www.diwanalarab.com) في الموافق:03 سبتمبر 2016. الرياض:
المقلي، عمر أحمد عثمان. 2002.مبادئ الإدارة. شركة مطابع السودان المحدودة. السودان:
اليعقوبي، علي بن راشد .2011. دور نظم المعلومات الموارد البشرية في زيادة فاعلية أداء إدارة الموارد البشرية. رسالة ماجستير غير منشورة. الأكاديمية العربية البريطانية للتعليم العالي. سلطنة عُمان:
English references:
Wagana ، Duncan M.، Iravo ،Mike A.، Nzulwa Joyce D.، Kihoro، John M. (2016. The Moderating Effects of E-Government on the Relationship between Administrative Decentralization and Service Delivery in County Governments in Kenya. Journal of European Scientific June 2016 Edition Vol.12، No.17 ISSN: 1857 – 7881.
White، Leonard D (2003) “Decentralization” The Encyclopedia of the Social Science، U.S.A.