الاصطدام بالغرائب
د . علي زين العابدين الحسيني _ باحث وكاتب أزهري
الاصطدام بأحداثٍ غريبةٍ كالاصطدام بكلماتٍ جديدة أو غامضة، فعندما يصطدم أحدنا بكلمةٍ لا يعرف معناها فإنّه سرعان ما يذهب إلى أقرب معجم للبحث عنها، ولا يكون هذا لأيّ شخصٍ، بل للمتشوّق إلى معرفة كلّ ما هو جديد.
تمرّ علينا أحداثٌ يوميةٌ تستوجب النظر والتأمل دون محاولة منّا لتفسيرها، أو العكوف على معرفة أسبابها، ولذا فإننا لا نستفيد من مجريات الحياة بسبب ذلك، فيومنا لا يختلف كثيراً عن أمسنا، وغَدُنا هو كما يكون، حتى محاولة التفكير فيه تكاد تكون مفقودة، فتمرّ علينا الأيامُ، ولا نشعر بها.
يُعدّ الاصطدام بهذه الأحداث الغريبة في الحياة اليومية فرصة للتعرف على الجديد من أساليبها، والبحث عن حلول وأسباب لها، ثمّ يكون التعايش معها، وقد يكون البحثُ عنها داعياً لِما هو أعظم مِن معرفة ذلك.
كان مما يؤرق الأستاذ عبد الوهاب المسيري ويتعبه -فيما ذكره في بعض لقاءاته المتنوعة- أنّه كان كثير الفحص والتمعّن لما يدور حوله من أحداث، وهذه الطبيعة المتفحصة هي التي ولّدت فيه قوة التحليل وكثرة التأمل، فامتاز عن غيره بقراءة ما وراء النصوص أو الأحداث.
هذه النظرة النقدية والشخصية التحليلية يحتاجها كلّ مشتغلٍ بالعلم والثقافة وخاصة الكُتّاب والنقاد؛ لأنّ ما يحدث حولهم من أفعال عادة ما تكون مادة كتابتهم ونقدهم، ولهذا يتعجب بعضنا من قدرة كثيرٍ من الكُتاب والأدباء على كتابة أكثر من مقال أسبوعي.
ويزداد الاندهاش حينما نعرف أنّ هناك كتاباً يلتزمون بكتابة مقالٍ يوميّ، وهذا الأمر يعتبره بعض الناس صعباً، أو خارجاً عن قدرة البشر، لكنّه أمر سهل ومألوف عند الممارسين؛ لأنّ مادة هذه المقالات هي غالباً ما يدور في حياتهم من أحداث.
إنّ الحياة اليومية مادةٌ غنية لمُحبي الكتابة شرطَ امتلاك القدرة على وصف الأحداث، كما أنّ ما يُرى أو يُعرف من حاجات الناس مادة متاحة لِمن يُحسن توظيف الكتابة من خلال التفاعل اليومي مع كل ما يراه أو يسمعه أو يحدث.
فيما مضى شَبهت الكاتبةُ (اليزابيث بووين) عينَ الكاتب بأنّها طوافة، يجب أن ترى الأشياء من حولها بحالة اندهاش وتساؤل دائم، ولذا ليس بالضرروة أن يبحث الكاتب عن موضوعٍ للكتابة فيه، بل الغالب أن الموضوع هو الذي يبحث عن الكاتب؛ ليكتب عنه.
ما يكتبه الكاتب من قضايا لا يعكس بالضرورة واقع حياته، وإنّما يعكسُ أيضاً واقعاً معاصراً، ووصفاً دقيقاً لمشاكل مجتمعه، فيُشخّص الدّاء من خلال كتابته، ويحاول قدر إمكانه وصفَ علاجٍ ممكن، وربما ينقل مشاعر وأحاسيس مَن لا يستطيعون إبداءها، وخيرُ الكُتّاب مَن وظّف قلمه للنفع العام، وليس في حاجةٍ وقتها للبحث عن موضوعٍ يكتبه.
إنّ الأفضل لك أنْ يكون بداخلك كلامٌ تكتبه دون الحاجة للبحث عن كلامٍ تكتبه.