ذاتية الوقت
د . علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
حينما تجلس في الأماكن العامة، أو تركب المواصلات المختلفة فإنك تتعجب أشدّ العجب مِن انشغال أغلب الموجودين -إنْ لم يكن كلهم- بوسائل الاتصال الحديثة مما يجعلك في حيرة مِن سرّ تأثير هذه البرامج على عقول الناس.
ولا إخالك مُكذباً لي حينما تُلقي نظرة مِن حولك فتجد مَن يُسرف في تضييع وقته بما لا ينفعه؛ مُقَسماً وقته بين (الواتساب) و (الفيس بوك)؛ فلا يترك (الواتساب) إلا (للفيس)، ولا يترك (الفيس) إلا (لتويتر) وهكذا في عمليةٍ تتكرر بصفةٍ يوميةٍ لقتل الوقت وعدم الشعور بالملل.
لا أشكّ أنّ هناك كثيرين محافظين على أوقاتهم، وهؤلاء يشعرون بغربةٍ شديدةٍ حتى في الحديث مع مَن لا قاعدة مشتركة معهم في التخصص أو الاهتمام، ويحاولون عادةً التخلص من صداقتهم؛ إذ لا نفع مرجوّ منهم، ليس هذا قدحاً فيهم، وإنما إخبارٌ عن حالهم، فمَن لا يصلح أنْ يكون صديقاً لك قد يكون مناسباً لغيرك.
يُعدّ الوقت ذا قيمة تصل في بعض الأحيان إلى نوعٍ مِن القداسة، ولعلكَ قابلتَ أشخاصاً يحرصون على أوقاتهم؛ كحِرصهم على أموالهم، أو أشدّ حرصاً، فإنْ خرج أحدهم من بيته أو دخله ففي مواعيد محددة، يصل مبكراً إلى مواعيده، ويحضر دائماً قبل موعده، ويشعر هؤلاء عندما يشاهدون غيرهم غير مُبالين بأوقاتهم بأنهم يرتكبون ذنباً، وأنّ أوقاتهم الضائعة حياتهم التي سيُسألون عنها.
إنّ أشدّ ما يؤذي المحافظين على ساعات يومهم تلك المواعيد الطارئة التي تأتي بغتةً كالموت؛ لأنه سيترتب عليها ارتباكٌ في نظام مواعيدهم، فتتداخل الأوقات، وتتزاحم الأعمال، ولا يجدون تفسيراً لشخصٍ يهجم عليهم بموعدٍ دون سابق عِلم أو حصول تفاهم إلا أنّه فارغ العمل.
مِن الأمور التي تُضيع الوقت ويترتب عليها ضياع العمر: حديثك فيما لا يعنيك، وتدخُلك فيما لا يخصّك، وانشغالك بأفعال الناس وأقوالهم، وهو مذهبٌ سائد، فشغَلوا أنفسهم بأفعال الناس وأقوالهم، وانشغل الناس بأفعالهم وأقوالهم، وترتب على ذلك أن ضيّع كلٌ منا هدفه في هذه الحياة، في الوقت الذي نحن فيه جميعاً أحوَج ما نكون للحفاظ على حياتنا.
لا يكفي العلم والعمل لتنفيذ أهدافك إنْ أردتَ نجاحاً، بل لا بدّ من ثالثٍ لهما، وهو حِفاظك على وقتك، وهو النظام؛ لأنّ عِلمك يُبين لك الطريق، وعَملك يمضي بك في سبيله، وتنظيم حياتك يوفر لك الجهد، ويساعد في الوصول إلى غرضك.
عِلمٌ فعملٌ فنظام؛ فإن جهلتَ ولم تعلم، أو عملتَ بلا هدفٍ، أو ضيّعتَ وقتك، انقطعتْ بك كلّ السبل عن بلوغ الأمل أو تحصيل الخير؛ لأنّ العُمر قصير، والحياة ماضية.
لن تستشعر قيمة الوقت كما ينبغي إلا بعد معرفة أنّ الوقتَ هو ذاتك.