ورحل الرجل الذي لا يزال باقٍ في قلوبنا
أحمد الحراصي
من قال يوما بأن الرجال تموت ولا تُخلد ذكراهم فقد كذب؛ الرجال تبقى ذكراهم بأفعالهم وأعمالهم التي لا تزول مهما طال الزمن بهم وهم تحت الثرى.
كان خبر الوفاة للوداع للمثوى الأخير صدمة لم يستطع تحملها ممن عرفوه ولكن ماذا نقول للقدر الذي يكتب بجباهنا منذ أن نكون نطفة في بطون أمهاتنا غير أن لكل امرئٍ يوما فناء .. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رجل من أعالي الجبال .. صلبا كالجبل نفسه وشامخا لا ينثني للمصائب التي لم تكن بالسهلة والتي مرت عليه وهو في الخدمة العسكرية لنحو 38 سنة اجتازها باقتدار، إنه الرجل الذي لا نلبث نذكره لشخص إلا وقد عرفه وقال فيه ما قال من الخصال الحميدة التي لا ينكرها أحدٌ .. رحل سالم بن سيف الدلهمي وترك لمحبيه الدرس الذي لعلهم يستطيعون أن يفهموا ولو جزءًا منه في حياته التي شغلها الكثير والمثير للدهشة.
سالم بن سيف الدلهمي ويُكنى ب (أبو جساس) كان عسكريا مخضرما التحق بالجيش السلطاني العماني في السابع والعشرين من مارس لعام ألفٍ وتسعمائة وثلاثة وسبعون للميلاد ليتخرج بعدها بثلاثة أشهر كجندي مستجد ثم التحق بعد التخرج بفصائل المدفعية وأظهر براعة وكفاءة جديرة بذكره فيها؛ فقد شارك في حرب ثورة ظفار المدعومة من الاتحاد السوفيتي واليمن الجنوبي الاشتراكي فكان ضمن ال10000 جنديا ممن انضموا في هذه الحرب لدحض الثورة وإخماد لهيب الأطماع العدوانية ما بين الأعوام 1973، 1974 حتى انتهائها عام 1975 كان رجلًا جريئا وعسكريا محنكا شجاعا .. لم يتزحزح في ميدان الوغى فأذاق المتمردين وبال أمرهم وأنكس أعلامهم وخرج منتصرا مع رفاقه المخضرمين بعد هذا النصر ولما اتسم فيه من صفات العسكري الناجح وإنجاز أشياء عظيمة فقد تمت ترقيته إلى مدرب لضباط المدفعية ثم مدرب للضباط المرشحين في المدفعية عام 1979. قيل عنه أنه كان ذو نباهة، وفطنة، وبديهة وكان نعم العسكري الذي يتسم بالصفات القيادية وكأن هذه الصفات خلقت له دون سواه ليصبح عسكريا لاقى إعجاب ضباط الصف فكان يُبدي انضباطا عالٍ ومهارة في تدريب طوابير الاستعراضات العسكرية ساهم في تخريج دفعات من الضباط المرشحين الذين تدربوا على يديه فأصبحوا رجالا قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة والعمل لتقويم صفوة الجيش السلطاني العماني الرهيب في استعراضاته العسكرية والمهيب في حضوره .. فهذا كله إن دل فإنه قد دل إلى قائد يعرف كيف يجعل ثمرته تنمو وتصبح شجرة قوية جذورها متأصلة ضاربة تحت أعماق الأرض. بعدها التحق بكلية السلطان قابوس العسكرية كمساعد أركان وظل 17 عشر عاما في هذه الوظيفة حتى قبل أن يتقاعد عام 2011 برتبة ملازم/1 بعد 38 عاما من العطاء تاركا شهرة في المجال العسكري وصفحة بيضاء في جبينه مرفوع الرأس عالي الهمة.
ورغم ما اكتسبه من شهرة في الميدان العسكري والذي شرّف هذه الوظيفة وتشرّفت به إلا أنه كان متواضعا بين مجتمعه، نعم فلم يشعرهم أنه ذلك القائد الفذ .. ذلك العسكري الذي يهابه ممن تدربوا على يديه بل كان على العكس رجلا هادئا قليل الكلام لكن إن تكلم أوجز فلا ينطق إلا بالخير فكان للخير سباقا فأخذه ورأى الباطل فمسكه بيديه ثم نزعه وألقاه، كان أيضاً رجل المناسبات وعازيها الشغوف يصدح فيها بكلماته التي احتفظ بها ليلقيها في مناسبة كهذه في عرس أحدهم.
عندما أقول رجلا فهو للرجولة معناها والرجال تبين بأشنابها وكأنني أراه وهو يقول إن لم تعرفني فأكرمني بحسن ظنك ليس إلا، يمشي وكأنه في استعراض عسكري والعساكر الجنادل من خلفه تهرول وتسوغ تحركاتها بإيقاع حركات قدميه التي تضرب في الأرض فتسمع صداها يتردد في أذنيك.
لم ينس أنه عسكريا أبدا فكانت الهيبة والوقار ترافقانه أينما حل وارتحل، لم أعرف رجلا في تلك القرية (قرية الغيل) من هو أهل للقيادة والزعامة في عينيّ .. كان فريدَ زمانه وصاحب رأي ومنطق فإن ضاقت بك الأيام وحلّت المصيبة فوق رأسك تجده أول الناس القادمين إليك لا يترك مجلسك إلى أن تنقضي الغمة يستقبل الضيوف ويواسي نفسه فيواسونه في مصابه إن لم أقل أنه مصابك أو مصابنا فهو من أهلي ومن أهلك لم يعتذر يوما أنه لا يستطيع الحضور بل يواضب على مدى الثلاثة أيام من مطالع الشمس حتى مغاربها وكأنه يقول “نحن أولاد عم يا مسمى من جدين أخوين بظني”.
لم يستكن يوما لأحد ولم يشتكِ من شيءٍ ومن قلة حيلة لإنسان، كان غنيا عن التعريف وكان معروفا بين أقرانه وأقربائه بصيّته الحسن، أراه دائما يروح ويجيء كل صباح بسيارته “النيسان” نلتقي أحيانًا ما بين أروقة المحلات أو الأسواق لا يعرفني كثيرا لكنني أعرفه فأبادر بالسلام عليه ربما عرفني وربما لا لكنني رأيته سعيدا لأنني بادرته السلام، تلك الابتسامة تعلو محياه فترد لك الروح التي لطالما أردتها أن ترد عندما تلتقي بهذا الرجل وجها لوجه لن تستطيع أن تُبدي إلا كل الاحترام والتقدير. ليس المهم أن يعرفني المهم وكل المهم فقط هو أنني شعرت أنه يعرفني لم يجذبني للحديث معه لكنه كان واثقا أنني سأتفهم أنه كان مشغولا في تلك اللحظة. آه لو أن للعمر بقية لكتبت من أجلك رواية سيتذكرها الكثير ممن عرفوك والذين يودون معرفتك وقد تلومهم اللائمة أنهم لم يعرفوك لكن صورتك ستظل باقية تهتف للعابرين أن لا تحزنوا أنني أراكم حيث ترونني في هذه الصورة البهية.
وداعاً ولكن أعدك أن الوداع لم ينتهِ ولن يتوقف عند حد ما. تمنيت لو أنني استطعت الحضور للمثوى الأخير كي أرى ذلك المشهد المهيب والناس حولك تنتحب ولكن للظروف أحكامها. تقفل عليك الجنازة وتنثر حبات الرمل النقية كنقاء قلبك وروحك فتدفن لترقد بسلام آمنا مطمئنا وتُرفع أكف نحو السماء داعية لك السعادة في الدار الآخرة.
لا أستطيع أن أقول الكثير فالقلم جف والدموع ذرفت وأنني أخاف أن يراني أحد وأنا أبكي فماذا سأقول؟ لقد توفيّّ الرجل الذي لم أستطع أن أكبح زمام نفسي لكي أكف عن البكاء، إنني الآن أبكي وأنا أكتب ولا أستطيع أن أتوقف.
آه .. تختفي الحياة دائما وكأن شمس السماء أحرقتها وجعلتها ركاما عندما تفقد رجلا كهذا الرجل. ليت الكلمات تخرج قبل هذا الوقت فدائما نحن بني البشر لا نذكر محاسن رجالنا إلا بعد موتهم أما كان أسهل لو أننا نطقناها وهم أمامنا أحياء!.
رحمك الله يا (أبا جساس) وجعل مثواك الجنة التي بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فروح وريحان وجنة نعيم. كان رجلًا عظيما عجزت النساء أن ينجبنَ من هم مثله فاسألوا تلك الرفقة الطيبة وتلك السنين الماضية عن ماهية هذا الرجل الذي فقدناه كما فقدنا حياتنا. لا أملك إلا أن أُعزي نفسي وكل أهلي لأبناء عمومتنا وأهلنا وسندنا المتين في المنشط والمكره.
كان يوم الثلاثاء الثامن عشر من أغسطس لعام 2020؛ تلقينا النبأ .. نزل علينا كالصاعقة خسرنا رجلا كنا نعِده مُلهمنا وابن عمنا وشيخنا الكبير وأحد عظماء عُمان وأبنائها الأجلاء. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته وألهمنا الصبر والسلوان فإنا لله وإنا إليه راجعون وعظم الله أجرنا جميعا.