هل لي أن أحدثك قليلا
بين أزقة القرية ورائحة الطين فقدنا هويتنا التي كنا نحلم أن تبقى ولو لبرهة من الزمن لترافقنا إلى ما لا نهاية.. وذكريات حفرت على مخيلتنا كل وقت وحين، فكم كان لهونا ولعبنا بريئا في الحارة التي نقطن وما من زاوية من زواياها إلا كان لنا أثر فيها وذكرى خالدة مع من أحببنا لن تنسى والذين رحل بعضهم روحا وبقي الأخرون جسدا ولم نلتقي.
الرستاق.. كباقي المدن العريقة التي اكتست ثوب التطور وشملتها المدنية الحديثة التي فجر سناها جلالة السلطان – حفظه الله ورعاه – مع محافظتها على هويتها التاريخية وتقاليدها الجميلة التي يفتقدها كل من ابتعد عنها أو هاجر منها.
عندما أختلي بنفسي لبرهة أدرك أنني فقدت شيئا عظيما في حياتي، فبين سواقي “فلج أبو ثعلب” وملعب الجزيرة القديم وسوق “بوثمانية” وصباح “قصرى” وجبال “الظاهر” وبيوتها الطينية كنا نتردد ونملأ المكان شقاوة وضحكا نتذكر لحظاتها وما لنا من نسيانها يوما ولو طال بنا الزمان.
عندما كبرت وهاجرت مع من هاجر للعمل إلى مسقط كان الحنين يقودني للرستاق كل لحظة من يومي ولازال يراودني، وما أن أجد متنفسا إلا وأعود مسرعا إليها وكأني لا أعرف سواها.. فهي في البلدان أعظمها وأجملها وأحنها وأزكاها.
قالت لي يوما أبنتي الصغيرة “ندى” وهي ساخرة مني لكثرة ذكري للبلاد، أبي ماذا تحب من الرستاق؟! وهل تحبها أكثر مني؟! وهي بالتأكيد لا ولن تدرك معنى الانتماء لوطن عشت فيه وكأنني لم أتخيل يوما أن أفارقه.. وكلما زرته أو علمت بسفري إليه غضبت واشترطت أن تذهب لأحد المجمعات التجارية بمسقط.
عندما قررت عائلتي ترك قرية “الجبة” والرحيل عنها لمكان أكثر انفتاحا وبعدا على القرية ومزارعها وبيوتها الطينية وفلجها العتيق، أدركت يومها أن روحي لن تنزع أو تفارق المكان، فأنا لازلت أتنفس عليل هوائها لارتباطي الشديد بها.. ولا ألوم كثير من لم يفارق مدينته ولم يرحل عنها.
أحد الأصدقاء المقربين ترك وظيفته وخرج لتقاعد المبكر عندما عرض عليه منصب مرموق مقابل أن يعمل خارج القرية والمدينة العريقة التي عاش طفولته وشبابه فيها ولم يفارقها وضحى من أجل أن يحضن ذكرياته بها.
نعمة الأوطان وخاصية الآمان التي يشعر بها “جيل الطيبين” من الميزات والعطايا التي افتقدها أطفالنا والذين لا هم لهم سوى التمدن والأجهزة والألعاب الإلكترونية والتي جعلتهم منفصمي الشخصية ومبتوري الهوية وبعيدين كل البعد عن مجتمعنا وهويتنا، وما هذا سوى لتقصير منا وانشغال.
ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أفضل وأعظم القدوات عندما هاجر من مكة إلى المدينة قائلا عبارته المشهورة مخاطباً مكة حين وداعها “ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك” أو كما روي عنه.. وهنا تتضح لنا قيمة الوطن وأهمية الانتماء والتضحية من أجل أن يبقى شامخا عزيزا مهما تقلبت الأزمان ودارت الأزمات.
وأقول لما تبقى من ذكريات وطن سنعود يوما لك أيتها الذكريات وإن لم يكون سوى الموت لطلبنا أن ندفن تحت ثراك ولن ننسى العهد الذي قطعناه على أنفسنا معك أننا سنظل نحبك كما أنت.
همسة أخيرة:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خير فيمن لا يحبّ بلاده
ولا في حليف الحب إن لم يتيم
“مصطفى صادق الرافعي”
الوليد بن زاهر العدوي
إعلامي عماني
aladawi78@gmail.com