فلنقل طيِّبًا أو لنصمت
أبرار بنت ناصر الحضرمية
نطلق كل يوم آلاف الكلمات، منها ما يكون لها أثر طيب في النفس، ومنها ما يكون أثره سلبيًا، وهناك الكثير من الناس من يجهل ماذا يمكن أن تفعل الكلمة بنا، وما مدى تأثيرها علينا، فنرى البعض منهم يرمي كلمة حادة تصبح كالسكين تتغلغل في الأعماق متسببة في نزيف مستمر من الألم المعنوي والمعاناة لا يمكن التشافي منه بسهولة، بل وقد تؤثر بشكل كبير في حياة الشخص وقد تهوي به إلى القاع.
والكلمة الطيبة هي مفتاح القلوب، فإذا لم يكن لديك شيء تعطيه للآخرين، فتصدق بالكلمة الطيبة، والابتسامة الصادقة، فالكلمة الطيبة تهفو إلى سماعها الآذان، وتسر بها الأنفس وتنشرح لها القلوب، وتؤتي أكلها كل حين فهي تؤلف بين النفوس، وتطفئ نيران العداوة والبغضاء، وتقوي الروابط الإنسانية، فكم من كلمة طيبة قربت البعيد ويسرت الصعب وأسعدت القلب، وكان لها بالغ الأثر في حياة الكثيرين من البشر، فيمكن لهذه الكلمة أن تحول الفاشل إلى ناجح، بعكس الكلمة السيئة التي تمجها الآذان، وتهبط بطاقة الإنسان لتصيبه بالاختناق والاكتئاب، وتشعره بالعجز والفشل، وتحبط كل مقوماته النفسية فتجعله يمتنع عن القيام بأي إنجاز.
أتذكر إحدى الحالات التي تعاملت معها، فتاة انتهى بها الأمر للوقوف خلف قضبان السجن أكثر من مرة بعد ارتكابها لمجموعة من المخالفات التي يعاقب عليها القانون، وحينما قمت بإجراء البحث الاجتماعي لحالتها، ومحاولة تتبع التاريخ التطوري لها للوصول إلى السبب الكامن وراء تلك التصرفات، وبعد سردها مجموعة من الأحداث والمواقف التي أثرت في حياتها، قالت بأنها تُحمل كل ما فيها من ضياع إلى والدتها، التي كانت دائمًا ما تردد عليها منذ الصغر كلمة واحدة فقط وهي “أنتِ فاشلة”.
وقد تكون هذه الكلمة سوء تقدير من والدتها، فبلا شك إنها لم تكن قاصدة إيذاء ابنتها، وقد يكون الهدف منها هو تحفيز ابنتها على النجاح، ولكن للأسف أخذت هذه الكلمة اتجاه مغاير تمامًا عما أرادته الأم وأنهى بالابنة إلى مستقبل مأساوي وما يترتب عليه من تأثيرات سلبية جمة.
على النقيض فقد سمع البعض منا قصة توماس أديسون الشهيرة، وكيف تصرفت أم أديسون حين تم طرد ابنها من المدرسة! تقول القصة: عندما عاد توماس أديسون الصغير إلى بيته قال لأمه: “هذه رسالة لكِ من إدارة المدرسة”.
قاومت الأم دموعها وهي تقرأ الرسالة، حيث قرأت بصوت عالٍ: ” ابنكِ عبقري والمدرسة صغيرة عليه وعلى قدراته، عليكِ أن تعلميه في المنزل”.
مرت السنوات وتوفيت والدة أديسون والذي تحول إلى أكبر مخترع في تاريخ البشرية.
وفي أحد الأيام وهو يبحث في خزانة والدته، وجد رسالة كان نصها: “ابنكِ غبي جداً، فمن صباح الغد لن ندخله المدرسة”.
بكى أديسون كثيرًا وبعدها كتب في دفتر مذكراته: “أديسون كان طفلًا غبيًا ولكن بفضل والدته الرائعة تحول لعبقري”.
وبغض النظر عن صدق هذه القصة، إلا أنها تحمل رسالة تربوية مفادها أن الكلمات التي تقال أمام الطِّفل، وتتكرر باستمرار على مسامعه، تعلق في ذاكرته وترسخ في ذهنه، وتصبح جزء من وعيه وقاموسه، بل وتشكل سلوكه وتصرفاته، وتساهم في تكوين شخصيته، وهو ما ينعكس على حياته الشخصية والاجتماعية مستقبلًا، وعلى علاقته مع الآخرين.
ولا يقتصر الأمر على الأطفال بل أن الكلمة الطيبة يحتاجها الأب والأم، الموظف والمدير، والمعلم والمتعلم، والغني والفقير، فالجميع متعطش لسماع الكلمات المحفزة والطيبة، وليس فقط الكلمات التي نسمعها من الآخرين بل الكلمات التي نقولها لأنفسنا، فمن الخطأ ترديد عبارات الإحباط والتشاؤم لأننا بهذه الطريقة نحكم على أنفسنا بالفشل بل بالموت البطئ، فقد أثبتت الدراسات أن الكلمات الجميلة لها تأثير على بعض مراكز المخ، حيث أنها تساعد على إفراز مادتي الأندروفين والنكيفالين؛ اللتين تؤثران على مراكز الانفعال تحت المهاد وتؤثر بدورها على إفراز الغدد الصماء والجسم كله، فلا تجعله يشعر بالألم وتمده بالطاقات المتجددة، على عكس الكلمات الجارحة فأنها تسبب جروحًا حقيقية في الدماغ وتميت عدة خلايا وتتلف عملها، مسببة نوعًا من العطل في التفكير، ولهذا نرى بأن الشخص المجروح يعاني من آلام نفسية وشعور سلبي وإحباط، وليس هذا فقط؛ بل قد يتحول إلى شخص فاشل غير منتج في مجتمعه.
ولشدة تأثير الكلمة الطيبة والسلبية على الإنسان فقد ضرب الخالق العظيم بها المثل وأجرى عليها التشبيه في محكم كتابه بقوله سبحانه وتعالى: (أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا كَلِمَةࣰ طَیِّبَةࣰ كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ تُؤۡتِیۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِینِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَیَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِیثَةࣲ كَشَجَرَةٍ خَبِیثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارࣲ) سورة إبراهيم ٢٤-٢٦،فإن الكلمة الطيبة مطلوبة في كل المجالات والعلاقات وتجري في قلوبنا كالبلسم يداوي الجراح، بينما تفعل الكلمة السيئة فعل الأفاعي فتسمم عقولنا، وتتعب أنفسنا، وتعطل ملكاتنا الروحية والعقلية.
فعلينا أن نعيد النظر في كلماتنا، وأن نسعى لنشر ثقافة الكلمة الطيبة لنملأ الكون بالطاقات الإيجابية التي تجعل كل منا سعيدًا ومرحًا، ولنتخلى عن الكلمات القاسية المدمرة حتى لا يزيد ضعف هذا الإنسان فيمشي منكفًا على وجهه عاجزًا عن إصلاح ذاته ومجتمعه، وأن نحاول أن ننتقي من الكلمات ما يعود علينا وعلى غيرنا بالمنفعة والراحة النفسية .. لذا فلنقل طيباً أو لنصمت..!