ليلة القبض على سائبة
علي بن مبارك اليعربي
في الليلة الحادية عشرة من شهر يناير سنة ألفين وعشرين؛ تم القبض على سائبة وكانت النهاية، أما البداية – بداية الحكاية- عندما كانت (جاهلة) تعيش عيشة التعساء والبؤساء، تتأخر كثيرا عن قريناتها، تقدمتها صغيرات السن في عالمها، عاشت في عزلة حتى كادت تنسى وتمسح معالمها رغم أصالتها ونسبها الرفيع.. انتظرت أمداً طويلاً، وعاشت في ظلام دامس، تفرق عنها عزوتها ويئس منها أهلها، أصابها الوهن، وانتشر في جسدها المرض، ومع ذلك كانت تنتظر الفرج، كان يملؤها الأمل في أن يظهر لها الفارس الذي طالما حلمت به، وظلت كذلك حتى امتطى فارس مغوار صهوة جواده.. به كل الصفات التي كانت تحلم بها تلك المسكينة (جاهلة).
فارس يحمل في يده مشعل النور وسيف العزة والإباء لينتشلها من كابوس جثم على صدرها سنين، وقد تحقق لها ما أرادت بعد طول انتظار، ونفضت عن نفسها ما علق بها من ماضيها الحزين حتى إن اسمها زهدت فيه ورفضته، واختارت لها اسماً آخر وهو نهضة وليست نهضة فقط بل و- مباركة – اسم جميل وجماله في تركيبه البديع النهضة.. وتعني الانبعاث، الاِرتفاع، التجدد، التقدم بعد التأخر. توشحت (جاهلة) بنهضة عِلمية وعمرانية شاملة لمع فيها الإنسان العالم، و الفقيه الزاهد، والأديب المتألق، ولم يكن الإبداع بعيداً عن مرمى المسماة بالنهضة فقد أخذ تألقها و إبداعها من الجزء الثاني من تركيبة اسمها، فهي المباركة بمعنى تزكيته وَ جعله خيراً وَ نماء لما لمسته في أهلها من الوقوف الصادق حول منقذها وظهور معدنهم الأصيل، من نخوة وشهامة وقوة وعزيمة، بالإضافة إلى روح المبادرة و إنكار الذات والثقة بالنفس، يتقدمهم فارس نذر نفسه منذ أن امتطي فرسه ووعد بأنه أتى ولن يترجل منه إلا بعد أن يرى النهضة المباركة وقد ازدانت وعاد بريقها كسابق عهدها، تلمع في عقد عالمها المتلألئ، و بدونها تنفلت جواهر العقد وتتفكك فصوصه. وكان له ما أراد وأصبح يحتفي باسمها الجديد كل عام.
واستمر الوضع وعروسنا تزداد نضارة وتألقاً، وتعلو مكانة وشموخا رغم صغر سنها باسمها وثوبها الجديدين، والتي أصبحت تباهي به القاصي والداني، واحترم سموها العدو قبل الصديق ونالت رضا الله فأمست حاضنة للصلح والتوفيق بين المتخاصمين وجبر خواطر المظلومين، ولأن هذا حالها أصبح وأمسى في العالمين، وحال بني آدم لم يتغير من زمن قابيل وهابيل عندما نال هابيل من الله العلي القدير القبول والرضا، فأوغر ذلك صدر أخيه قابيل وامتلأ عليه حسداً وحقداً وقدم على النيل منه فقتله فأصبح من الخاسرين. حسبما ورد في كتاب الله العزيز في قوله تعالى بسورة المائدة (بسم الله الرحمن الرحيم) :- {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَققْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
هذا ما تجسد للنهضة المباركة حين ذاع صيتها، و وضعت في مكانها الصحيح فامتزج ماضيها العتيد بحاضرها المجيد، ودخلت في عالمها النفوس الخبيثة وحملت تلك النفوس بداخلها الحقد والحسد رغم المحاولة والجهد المبذول من قبل الفارس ذي الحصان الأبيض ورجاله المخلصين لإجهاض ذلك الحمل الخبيث، إلا أن سائبة الخبيثة ولدت ولم تكن ولادتها سهلة وميسرة، بل كانت متعسرة ومع ذلك كان لها تأثير بارز على تسارع نمو النهضة المباركة كما تأثر كل شيء حولها. وزادت معاناتها مع ما ألم بفارسها من اعتلال ووهن في الجسم بمرض عضال، بالإضافة إلى النوائب وويلات الزمن ومع هذا وذاك لم يكن غائباً عن باله ما يمكن أن تخلفه سائبة إذا ما تم تجاهلها. لهذا بحث عن فارس لا يقل قوة في الهمة والعزيمة والبصيرة والحنكة والإقدام ليحل محله، وما أن ترجل عن صهوة جواده طيب الله ثراه بعد نصف قرن من الزمن، حتى انبرى فارس آخر اختير بفراسة وكأنه وضع لنوائب الزمن لا يقل تألقاً وشموخاً عن سابقه، ليتم القبض على سائبة في تلك الليلة المحمومة التي كان فيها جوارح النهضة المباركة تئن من ألم فراق مغير اسمها ومعيد مجدها الراسخ. ظلت شاخصة بعينيها تنتظر فارسها القادم لتقف من جديد وتبدأ في نفس الليلة رحلة القبض على سائبة بخطوات ثابتة رصينة ومدروسة، وذلك من خلال القرارات الجريئة والتي تم الإعلان عنها وإجراءات أخرى تنتظرها تلك الفاتنة باسمها الجديد؛ النهضة المتجددة كما يحلو للكثير أن يناديها الآن. ولم يطلق هذا الاسم عليها جزافاً بل أخذ عنوة بما اختطته يد فارسها الذي أمسك زمام أمورها، وأحكم قبضته على سائبة وبدا جلياً بأنه عازم على إعدامها رجماً حتى الموت حيث يقول؛ إذا تم إغلاق كل حنفيات الإهدار سيفيض الخير ويكفي الجميع، وأنا أقول كلما تتبعنا الشاردة وأمعنا النظر والتفكير في الواردة تمكنا من السيطرة على السائبة.