هذا ما جناهُ أبي
هلال بن حميد بن سيف المقبالي
قصة من نسج الخيال، ربما يصادف حدوثها في المجتمع
لم ادرك لحظتها ماذا حل بحالنا، بعد ما كنا أفضل الأشخاص في قريتنا ، كما يقال (هناقرة) ، كانت الأموال تأتينا بلا تعب او جهد ، فقد كان ابي وكيلا لمال الوقف والفلج، وفوق ذلك كان يمتلك أموالا ملك، ورهن نخيل وبرازات بمواقع مختلفه تكفي وتزيد لمعيشتنا بكرامة ، و كانت أمي سيدة نساء القريه مضربا للمثل في تنسيق ملابسها و كثرة حليها فهي لا تخرج بدون صوغها( ذهبها) فكان أجراس الكنائس تقرع خلفها من شدة صوت تصادم الذهب الذي تلبسه، كانت ملابسها تاتي خاصة لها من مطرح ودبي ، كنت انا الولد الثالث من بين خمسة ابناء ثلاث بنات وولدين.
كنا نملك أربعة منازل ملك لنا تقع بارض مرتفعه مطلة على الوادي والمال تسمى (الجناه)، _ حولنا احداهم بعد فتره الى مجلس كبير، وغرفة خاصة، للوالد _ وكان جزء من (الجناه) مخصص لتجفيف التمر الذي نجنيه من نخيلنا.
كُنتُ صغيراً حينها، وانا اتجول بين العمال الذين يجمعون التمر، ويقومون بفرزه بين الصالح للاكل وبين ما سيصبح طعاما للماشيه(نفيعه)، ويوماً ما سمعت احدهم يقول ” شوف الحاله نحن أهل البلاد ما عندنا شي وهذا جاي يتبدر وصار هنقري، من هين جينه هذي الفلوس؟ “.
سالت أمي عن ذلك فقالت أبوك كان يدور شغل وحصل فهذه البلاد شغل، واحترام من اهلها اشتغل بيدار، واخذ يستاجر( يستطنا) نخيل وشجر الليمون وكون رزق من بيع التمر والليمون، باع ماله اللي ورثه من ابوه وأشترى بهن بيت (براده) ودفع مهري ، وتزوجني، و بعد زواجنا و كلوه الاهالي أدارة الفلج، وأموال الوقف بعد وفاة الوكيل السابق لثقتهم به ، وهذه الجناه التي نحن عليها الآن كنا نجفف فيها التمر والليمون ، واقترحت على أبوك يبني فيها بيت ونطلع من (البراده) و كما تشوف خذيناها وبنينا فيها بيت، وباع أبوك (البراده)، وتوسع في الجناه..
بعد فتره تجاوزت العشر سنوات، و صل إلينا خبر وفاة عمي( الذي لم نكن نعرف عنه شي ولا نعلم بوجود عم لنا على قيد الحياه قبل وصول خبر وفاته)، ذهب ابي ومعه احد اتباعه (مرافق) الى قرية عمي، و التي يحتاج للوصول لها يوما كاملاً عبر مسارات جبليه،
بعد 5 ايام عاد والدي والفرح يملأ وجهه، وسمعته، قائلاً لامي ” خليت بيدار لمالي واوكلت له بيع الثمر والانتفاع به مقابل صيانة المال والحفاظ عليه، وتجميع المبلغ الزايد عن حقه، وارسله لنا “ردت عليه أمي ” تقول بايعنه!!!”.
مرت الاعوام سريعا. فبعد سنتين من رجوع ابي من عزاء عمي ، تزوج اخي واختي، وسكنا في المنازل الفاضييه، ظل اخي خمس سنوات لم يرزق بالذرية اما اختي فكان لها ثلاثة أبناء (أبنتين و ولد)، وبعد الحاح امي طلق زوجته، وظل بدون زوجه سنتين سالكا طريق السهر والسكر، تزوجت طليقته وانجبت، جن جنون امي فخطبت له وتزوج، و رزق بولد وحيد ولكنه ظل على حاله، واخذ يسرق من ذهب امه ونقودها، و كذلك كان يأخد من نقود والده بدون علمه، فساءت حالته، حتي أصبح يغيب عن البيت بالايام مما جعلنا، نتعود على ذلك الوضع.
بداية الاحزان التي عمت عائلتنا ، غرق اخي الاصغر في العائلة (16عاماً) في حوض الماء بدون اي سبب، رغم انه يوميا يسبح في الحوض، حزنت امي وابي عليه حزنا كبيراً.
بعد وفاته توالت الاحزان علينا، صحى ابي في احد الايام من نومه فاقدا للبصر بدون أي مرض ولم نجد له علاجاً ، و بعدها بشهر وجدنا اخانا الاكبر مرمياً امام بيته ميتاً، مما افقد امي عقلها الذي كان يدير مملكتنا بكل أمتياز. .. بعد فتره توفيت اختي الاصغر مني بحالة دهس عند نزولها من حافلة المدرسة، وتسقط امي مغمياً عليها وتفيق بعد فترة بجسد مثقل، فقد أصاب جسدها شللاً كاملاً، فأصبحت طريحة الفراش، و تتوالى الاحدات علينا من صدمة الى أخرى ، توفي زوج اختي و ابنها الوحيد ، واحفادها الثلاثة بحادث سير ، ليغلق البيت وتذهب اختي لتسكن عند احدى ابنتيها، وتتوفى عندها، من شدة الحزن على فقد عائلتها ، و بعد عام واحد من وفاة أختي، توفى ابن اخي وزوجته ايضا بحادث ، لتنتهي العائله بموت ابن اخي، بعدها سقط ابي مريضاً، ومن قوة الحزن، و من هول الاحداث الذي مرت تباعاً عليه، صار لا ينطق ولا يتحرك ، فقط أرى الدمع والحزن ظاهراً على عينيه الكفيفتان.
بعد مرض ابي، جاء وفد من اهالي القريه يطالبوني بالمبالغ و دفاتر الوقف والفلج الذي كان ابي وكيلهما، ليتم تسليمهما لمن تنتقل له وكالة الفلج و مال الوقف، لأتفاجأ بعد مراجعة الدفاتر والمبالغ ان ابي أخذ من مال الفلج والوقف ولا يسدد ما يأخذه ، هذا الخبر أفقدني صوابي، ابي مدانا بمبالغ كبيره للفلج ومال الوقف، وهو الامين، الوكيل عليها، كان يصرف لنا من أموال الوقف والفلج!!!.
اضطررت ان أبيع البيوت واعطيهم المال الذي يكفي لسداد الدين او كما أطلقوا عليه ( المال المنهوب)، لعله يخفف ذلك من معانات ابي ويخفف من وجع آلامه، ولم يبقى لنا إلا البيت الذي نعيش فيه، واصبحنا من هناقرة، الى انتظار من يرسل لنا الطعام، لنبقى على قيد الحياه.
توفى والدي بعد معاناته للمرض توفى وهو يتمتم بكلام لا أفهمه ، لعله كان يريد ان يخبرني بشيء ، بعد ما فات الامر عليه،
اصبحت وحيدا مع امي القعيده، لا ابرح مكاني خوفا عليها.
بعده اقل من 3 اشهر من وفاة والدي جاء وكيل أموالنا في قرية ابي السابقه، ليخبرني ان ابناء عمي وجدوا ورقة بيع المال، و هم يطالبون به حاليا، قائلا أنا لا استطيع تسليمهم اياه ألا برضاكم، مضيفا ان والدي حلف على ذلك المال يميناً انه لم يبعه، فأصبح ملكه، و أقامني وكيلاً عليه، و لكن بوجود ورقة البيع أصبح المال ملكهم، او اثبات منكم عكس ذلك.
آه… من حمل عظيم، كل هذه السنوات كان ابي يصرف علينا من مال الوقف والفلج، و يستولي يميناً على مال ايتام ظلماً وبهتاناً، رغم اني سمعت من امي بأن ابي باع ما ورثه من مال ، فلما انكره!!!.
وعدته باني سأذهب معه بعد ان اصبح غداً باحثاً عمن يعتني بأمي من نساء القرية خلال فترة غيابي عنها ، لتكون هي السابقه لهذا الامر، فقد فارقت الحياة قبل ان افارقها لاصلح ما جناه ابي..
كل هذه الأحداث حصلت في اقل من خمسة عشر (15) عاماً، من بعد وفاة عمي أو بالأحرى بعد يمين أبي وأنكاره بيع ماله لأخيه، وكأن السيناريو قد رتب لنا لنعيشه بهذه السرعه.