عشِقت بدوياً حتى تزوجته
الكاتب والقاص العماني : يعقوب بن محمد الرحبي
لست ممن تستهويهم قرأت قصص الحب والغرام وهذا لا يعني بأنني لا آمن به ، لكني أحاول أن أرتقي بقراءاتي ، وما فرضه علي الواقع هو تعرفي عن قرب ، قصة حب و زواج من الحقيقة وليست من الخيال ، حدثت فصولها في مدينة البتراء الأردنية ، بين الشاب محمد عبدالله المناجعه والفتاة النيوزلندية ( مارغريت ) والتي أصبح فيما بعد اسمها فاطمة(أم رامي) ، قصة حب حقيقية تدمع لها العيون ، عاشتها الممرضة النيوزلندية مع من تحب على مدار أربعة وعشرون عاماً ، ومما لاشك فيه من أن الحب والعشق من أسمى المشاعر الإنسانية التي أودعها الله عز وجل في النفس البشرية، سواء أكان حباً لزوج أو لفتاة نعشقها أو لأم أو أخ أو صديق، ثمّ يأتي العشق بعد المحبة الزائدة فتسعى النفس لترجمته إلى مشاعر نبيلة ، ولاشك بأن الحب والعشق هي حالة تصيب الإنسان بالفطرة ، فالانسان محب بفطرته، والرومانسية هي غذاء الحب للذي تحبه ، وأعني بالرومنسية هنا كلمة طيبة وباقة عطرة ،ولاشك حين يصاب القلب بمشاعر الإعجاب، مع مرور الوقت، تتطور مشاعر الحب ، وعندما يصبح المحب شاعراً أو كاتبا يقول أحلى كلمات الغزل، وأرقها، وهي من أجمل الحالات التي يمر بها أيّ إنسان، وبالذات إذا كانت كلمات صادقة، ومعبرة، وعميقة ، لذا لا نندم على حب عشناه حتى لو صار ذكرى مؤلمة لنا، فإن كانت الزهور قد جفت و ضاع عبيرها ولم يبقى منها غير الأشواك، فلا ننسى أنها منحتنا عطراً جميلاً أسعدنا يوما ما ، وكما قال القاضي والشاعر العماني أبو سرور حميد بن عبدالله الجامعي رحمة الله عليه في ديوانه ( أبوسرور ) المجلد الثاني قسم الغزليات صفحة (125) بأنه يؤمن بشيء اسمه الحب، وله قصيدة عنوانها ( قاض- وأين الاستئناف ) ) مطلعها ( هذا هو الحب يهواني وأهواه ) لكن الشاعر يجسد في قصيدتة الحب الطاهر النقي المخلص الوفي .
هكذا كان 1978 عاما مميزا في حياة الممرضة النيوزلندية (مارغريت فان غيلدرملسين) التي كانت في جولة سياحية مع زميلتها ورفيقة حياتها الأسترالية (اليزابيث ) الى مدينة “البتراء” الأثرية بالمملكة الاردنية الهاشمية ولم تكن (مارغريت ) فتاة طائشة أو متهورة في حياتها إنما كانت فتاة تتحلى بالهدوء ودقة التفكير والتخطيط ، وإنسانة تحمل في قلبها الحب والعواطف الإنسانية مما جعلها تختار مهنة التمريض ، لم تكن (مارغريت ) استعدت أو خططت بعد لاختيار شريك حياتها ، كان الهدف من جولتها السياحة فقط واختارت الشرق الأوسط حالها كحال كثير من الأوروبيين الذين يستهويهم التعرف على تاريخ وتراث تلك الدول نظرا لما لديها من إرث حضاري وتاريخي متميز، فالوطن العربي زاخر بهذا الإرث الحضاري والموروث التاريخي مما يأهله لتكون السياحة فيه مورد حيوي ، كما هو حال اليوم لبعض الدول الأوروبية التي تعتمد على السياحة كمورد مهم ، مثل إيطاليا ، أسبانيا ، و فرنسا وحدها تستقبل ما يقارب 86 مليون سائح كل عام وبلغ عائدات السياحية في فرنسا عام 2017م أكثر من 19 مليار دولار أمريكي في غضون عام واحد ، ومما لاشك فيه بأن مدينة البتراء الأردنية هي واحدةٌ من المدن التاريخيّة والأثرية التي تأسّست في العام 312 قبل الميلاد، وتقع في الجهة الجنوبية من المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وتحديداً على منحدارت جبل المذبح، وتبعد عن مدينة عمّان العاصمة حوالي مسافة 225 كيلومتراً، وتتبع إدارياً إلى محافظة معان، وكانت المدينة قديماً عاصمةً لمملكة الأنباط القديمة، ولقبت باسم (المدينة الوردية) بسبب ألوان صخورها الوردية الجميلة وتحتظن مواقع أثرية كبيرة مثل السيق، هو عبارةٌ عن طريقٍ رئيسيٍّ مشقوقٍ بين الصخور يوصل إلى المدينة، ويبلغ طوله حوالي 1200مترٍ، وعرضه بين 3 إلى 12 متراً، وارتفاعه 80 متراً.
الخزنة، تعتبر من أشهر وأهمّ المعالم الموجودة في البتراء، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى اعتقاد البدو بأنّها تحتوي على كنز ، وتتألّف الخزنة من طابقين كلّ طابق ارتفاعه 39 متراً، وبعرض 25 متراً، كما تتألّف من ثلاث حجرات. مسرح البتراء، يعتبر من أكبر المباني فيها، وقد شيّد في القرن الأوّل الميلاديّ، ويتّسع إلى عشرة آلاف شخص. الدير يعود تاريخه إلى النصف الأوّل من القرن الأول قبل الميلاد، ويتألف من طابقين. قصر بنت فرعون شيد في القرن الأوّل قبل الميلاد، المحكمة تتألّف من عدّة واجهاتٍ هامةٍ كقبر الجرة. المعبد الكبير يعتبر من أضخم المباني المشيدة فيها، ويقع في جهة الجنوب من الشارع المعبّد. المذبح ترجع أصوله إلى الآدوميين، واستعمل كصلة وصلٍ أيام الحكم الصليبيّ بين قلعة الوعيرة، وقلعة الحبيس. مواقع أخرى: مثل معبد البستان وقبر المسلات، ومقابر الملوك، وضريح الجنديّ الرومانيّ، والقاعة الجنائزية، ومعبد الأسود المجنحة، ومدفن الحرير، وقبر القصر، ومدفن سكستوس فلورنتينوس، وقبر الرينيسانس، والقبر الكورنثي.
من تاريخ مدينة البتراء استوطنها البشر بين العام 1200 والعام 539 قبل الميلاد. ضُمّت المدينة إلى أملاك الرومان في العام 106م. تعرّضت إلى زلزالٍ في العام 746م والعام 748م أدى إلى إفراغها من السكان. خلال الفترة العثمانيةّ بقيت المدينة في سبات، وفي العام 1812م أعيد اكتشافها من جديد. ولهذه الأهمية التاريخية ونظرا لهذه المعالم الأثرية أصبحت مقصد الكثير من السواح الأوروبيين ، ومن بينهم الممرضة النيوزلندية ( مارغريت ) و زميلتها الأسترالية (اليزابيث ) فكانت مدينة البتراء هدفهم للتعرف على هذا الكنز الهائل من الآثار والاستمتاع بالحياة البدوية التى لطالما تحدث عنها الرحالة والمؤرخون فالثقافة الغربية تختلف تماما عن الثقافة الشرقية لأن الأوروبيون محطتهم الأولى التراث والتاريخ والبادية، بينما نحن تستهوينا الطبيعة والأجواء الجميلة ورقي المدن وعمارتها ومجمعاتها ورفاهيتها هذه ثقافة وتلك ثقافه .
في هذا العام أي 1978 توجهت (مارغريت) و زميلتها إلى مدينة البتراء الأردنية ، هناك كان مضيفهم هو الشاب البدوي(محمد عبدالله) وكان شاب بسيط فقير جدًا يعيش في كهف جبلي في مدينة البتراء المنطقة الأثرية ولا يملك دخل سواء بيع بعض التحف والميداليات أمام كهفه ، ولأن الحب إرادة من الله وقعت (مارغريت ) في حب هذا البدوي وانعجبت به جدا من النظرة الأولى وفي الوقت نفسه محمد أيضا انعجب بها ، بعد مرور أيام قليلة اعترفت (مارغريت ) لصديقتها (اليزابيث) بمدى اعجابها بالبدوي ، وبشهامته معهم ،وتفانيه في خدمتهم ، وكونه يحميهم ولا يطمع في أموالهم وزادت في القول إنها تحبه.
الصديقه الأسترالية اتهمتها بالجنون وما هذه إلا عواطف ، أيعقل أن تحب هذا البدوي الفقير الذي لايملك شيئا ويعيش بين هذه الجبال ، لكن الله إذا أراد قلب لقلب جمع بينهم ووفق أرواحهم لبعض ، تعلق قلب (مارغريت ) بهذا الشاب البدوي، و من المعلوم بأن الفتاة الأوروبية ليست من السهل أن توافق فورا على الزواج بمجرد معرفة خاطفة أو حب قصير، كما أن الفتاة الأوروبية لا تنظر إلى فارس أحلامها بأنه يملك مالا أو الجمال ولا النظر إلى فارق السن بينهما ، إنما المقياس هو الحب ومقياس الحب الوفاء ، لذلك (مارغريت ) فكرت كثيرا ثم ذهبت إلى لندن كي تعطي نفسها فرصة في التفكير حتى أصبح محمد جزء لا يتجزأ من حياتها وشعرت بأنه هو أيضا يبادلها نفس المشاعر والأحاسيس لذلك عادت(مارغريت) في نفس السنة 1978 فتزوجت من البدوي “محمد” بعد ما أخبرت أهلها الذين رفضوا تمامًا فكرة أنها تتزوج من عربي و مسلم وفقير لا يملك اي شيء ،لكن (مارغريت)كانت ترى إنه يملك أعظم شيئا و هو الأخلاق والوفاء والإخلاص ، احترامه للأنثى كان أمينا وحريصا عليها وعلى زميتلها في كهفه عندما قضت ليلة واحدة معه هي وزميلتها داخل كهفه ، وهذا مما جعلها تضرب عرض الحائط بوجهة نظر والديها ، وكانت العائلة تؤمن وتتفهم بأن القرار الأول والأخير قرار (مارغريت ) ومصيرها هي أولى به لكن عليهم أن يبدوا وجهة نظرهم وكانوا في نفس الوقت يخشون عليها من المخاطر فكيف بفتاة تعيش في نيوزلندا في وسط تلك الحضارة الراقية والمدينة الزاهره ترضى أن تعيش مع بدوي في كهف لا يملك قوت يومه ، لا كهرباء ولا ماء إلا بواسطة الحمير وطهي الطعام بطريقة بدائية هي الحطب ، فكان قرارها فعلا ضرب من الجنون هذا ما كان تراه عائلتها وصديقتها (اليزابيث ) لكن (مارغريت) إنسانة صاحبة إرادة قوية و وفية لذلك تزوجته ، وعاشت معه 7 سنين كاملة في كهف صغير في الجبل وسط حرارة عاليه ومعاناة شديدة بدون كهرباء أو ماء ذكرت ذلك في كتابها ( تزوجت بدويا ) إنها كانت أيام سعيدة جدًا لأنها كانت برفقة شخص يحبها جدًا ويتفانى لأسعادها. ولا يهما كيف تعيش بقدر ما يهما أن تبقى مع شخص يحبها وتحبه . تريد أن يكون كل شيء جميل بحياته يرسم على شفتيه الابتسامة كلما خطرت على باله. ولسان حالها يقول : ليتني كل شيء تحبه أنت يا محمد. أما بعد فلن أحب أحداً بعدك، أما قبل فأنا أساساً لم أعرف الحب إلّا بك، فكانت زيارتي للسياحة وليست للحب . لكنك قيدتني بقيود أخلاقك وصفاتك وأمانتك ، استشعر طيفك معي مهما كنت بعيداً.
الحب أن أكتفي بك، ولا أكتفي منك أبداً. أحببتك جداً لدرجة أنّه عندما تغيب عني يغيب معك كل شيء. لو كان الحب كلمات تكتب لانتهت أقلامي، لكن الحب أرواح توهب فهل تكفيك روحي. كل ما أريده وأتمناه هو أن تبقى في حياتي للأبد. أحببتك حباً لو تحول إلى ماء لأغرق العالم بأسره. احتفظ بك لأنك أثمن أشيائي. كيف لا أحبك أكثر من نفسي وكل نبضة من نبضات قلبي تخفق باسمك. هكذا كان أحساس وشعور (مارغيت) نحو الشاب البدوي محمد علي وهي لا تعلم أنّه ينتظر منها نصف كلمة، وهو لا يعلم أنّها تنتظر منه ان يبادلها نفس المشاعر ، غريبة فلسفة العشق. من يعشقك بصدق سيجد ألف طريق ليصل اليك . أقرب الناس لقلبك هو من يعرف ماذا تريد بلغة عينك دون التحدث، بهذا الإحساس ، وبهذه المشاعر عاشت الممرضة النيوزلاندية مع من تحب بكهف 7 سنوات دون وجود المقومات الأساسية للحياة أو ايجاد أثرا للمدنية التى كانت في نيوزلندا تعيشها .
في 1985 تدخلت الحكومة الأردنية ونقلت (مارغريت) وزوجها محمد من الكهف المعزول إلى قرية (أم صيحون) ورزقوا من الأبناء 3 أطفال هما “سلوى ورامي ومروان” وقد عاشت مع زوجها وأبنائها 7 سنوات أخرى في هذه القرية ووصفتها بأنها أحلى أيام عمرها ، تغيرت حياة (مارغريت )التي أسلمت في ما بعد ورضت بالله ربا وبمحمد نبيا ورسولا وغيرت اسمها الى ( فاطمة ).
في 2002 لم تتمنى (مارغريت) أن ترى أو تدرك هذا العام حيث توفى زوجها(محمد عبدالله) الذي كانت تحبه حبا شديدا وضحت من أجله وضحى من أجلها فحزنت عليه حزنًا شديدًا ومن شدة ارتباطها به وبحبه أخذت أولادها ورجعت بهم إلى “البتراء” لتعيش بالقرب من كهف زوجها محمد وتتذكر ذكرياتهم الجميلة معا، تقول إنها كانت كل ما تحزن عليه تدخل الكهف فتشم رائحته وتسمع صدى صوته يتردد وضحكته وترى في كل زاوية من زوايا الكهف بصمة من بصمات زوجها فيرتاح قلبها.
وفي 2003 كتبت (مارغريت) رواية أطلقت عليها (أحببتُ بدويًا ) خلدت فيها قصة حبها مع زوجها العظيم على حد قولها ، ولما سألت عن الحافز الذي شجعها للكتابة عن قصتها ، قالت وهي تضحك ظاهرا و قلبها يتألم داخليا : “سنوات كثيرة من الحوافز ، محمد كان شابًا رائعًا وقد تزوجنا ولدينا ثلاثة أبناء وقد عشت في كهف ، وكان لابد من كتابة القصة ليعرف العالم أجمع أن الحب يكمن في شهامة الرجل وأمناته وصدقة وإخلاصه ، لاشك بأن (مارغريت) رسمت معالم الطريق لكل فتاة في طريقها للزواج بأن الاختيار يكمن في الأخلاق والأمانة فاذا انعدمت الأخلاق فلا يعني شيئا للمال والجمال ، فالأخلاق مرحبا أساس الحب، وضربت أروع الأمثلة في الوفاء ، ليت كل فتاة أن تكون مثل (مارغيت ) لأنها اختارت أن يكون مهرها الأخلاق ، وصداقها هو الإيمان بالله ورسوله االكريم ، لله درك يا أم رامي علمتينا معنى الحب والوفاء .