ما لا يُعرَفْ!!!..
هلال بن حميد المقبالي
لم يكن قرار تقاعدي الاختياري بالقرار السهل، فالتقاعد الاختياري قرار مصيري لكل شخص يفكر في التقاعد، لأنه يؤدي إلى انخفاض في الراتب الذي هو المصدر المعيشي الأوحد، وكذلك يكون التقاعد الاختياري ناتجاً عن تفكير بسيط وليس نتاج تأمل عميق لتبني به مساراً ومصيراً للأيام القادمة.
28 عاما قضيتها بروتين واحد من البيت إلى العمل ومنه إلى السكن والعكس بنفس الوتيرة لمدة خمسة أيام ، والعودة في نهاية الأسبوع للبيت هكذا استمرت الدائرة، 28عاماً من العمر مضت وأنا بعيد عن الأُسرة ، والعلاقات الإجتماعية، والتجمعات العائلية، واللقاءات الشبابية – إلا النادر منها – فالإجازة الأسبوعية لاتسمح كثيراً لأداء هذه العلاقات – وقد يخالفني البعص، والبعض يؤيدني -.
كلمة واحدة غيرت موازين التفكير لأتخذ القرار المصيري ، و يا ليتني سمعتها من قبل لأتخذ قراراً آخر بديلاً عن التقاعد .
قبل التقاعد بسنة كاملة، وتحديداً في الإجازة الفصلية للمدارس ،تركت ولدي في بيت عمه يزور و يقضي بعض الأيام، مع ابن عمه حيث كانا في نفس العمر والصف، حتى أعود من عملي و آخذه معي إلى المنزل. لأتفاجأ وهو يقول لي عمي يحب أولاده أكثر منك، صعقتني هذه الكلمه، وزلزلت أركاني وأفقدتني صوابي ، مأكداً له أنا أحبكم، ليرد وبعفوية الصغار لكن تحبنا شوية ما تحبنا واجد، فأنت ما تجي بيتنا واجد ، َعمي واجد يجي و يجلس في بيتهم، موضحاً له طبيعة عملنا واختلافهِ و بعده و قربه من المنزل، ولكنه لايدرك ما أقول له، ولا يستوعب ما أوضحه له، بل ظل مصراً على موقفه، فتفسيره أراه منطقياً ، استوعبت كلامه و فكرت فيه قليلاً، ومن كلمته أخذت القرار ، وقد تقاعدت واضعاً خلفي كل طموحاتي ذلك الطموح الذي يسعى إليه كل مجتهد ومثابر، ذلك الطموح الذي تعثر مرات، و مرات، بأسباب ونظريات مختلفه وتركته خلفي، مبتعداً عن تفاهات الآخرين وحماقاتهم، واأنانيتهم، وتاركاً العقليات الجافه العقيمة، والمحبطة لبعض المسؤلين، وناسفاً كل القيود، والقوانين، والتزامات العمل، مفتقداً بعض الزملاء الذين يبادلوني الحب والتقدير، و أكن لهم كل مودة واحترام، ومعزة.
وقبل التقاعد فقد لامني الجميع معاتبين لماذا تتقاعد وأنت مازلت شاباً، وتستطيع الإنتاجية، والعطاء.
وجلسة البيت مملة، ومتعبة، والفراغ قاتل ولا يرحم، وبعد التقاعد مارست حياتي الاعتيادية، لم أشعر بملل، أو بطول الوقت، كما ذكر لي، لأنه عندي ما يسد فراغي، عائلتي، وكتبي ، وحتى في بعض الأحيان لا أشعر بالوقت إطلاقا وهو يمضي ملوحا بيده قائلاً مع السلامة.
وأصبح وقتي أكثر مع أسرتي، معوضاً لهم سنوات البعد عنهم ، أغمرهم بالحب، والحنان الذي كانوا لا يشعرون به إلا قليلاً، لأن يومين في الأسبوع لا يشبعان رغبتهم، ولا يشعرون بمتانة العلاقة، وقضيت أروع الأوقات وأجملها، وما زلت أعيشها، وتقاربت أفكارنا، ورؤيتنا، وأصبحنا أكثر انسجاماً في قراراتنا ، وزدنا مودة و تآلفاً عن ذي قبل، وصاحبت أبنائي الكبار و ساعدت في حل واجبات أبنائي الصغار، واستمعت منهم حكاياتهم الخيالية.
و من جانب آخر بنيت قاعدة قوية من التواصل والزيارات، والعلاقات الاجتماعية، واتسعت معارفي بالآخرين ، و شاركت الأقارب، والأحبة والجيران، أفراحهم وأتراحهم، وعملت متطوعاً في أكثر من مجال بكل سعادة وحب، و سافرت بدون قيود، ولا استئذان، و مارست تجربة التجارة والاستثمار، و لكن لم يكتب لي النجاح، ليس فشلاً، فأنا لا أؤمن بالفشل مطلقًاً، ولكن هناك أسباب أدت الى عدم نجاحي في المشاريع التجارية ، منها أنني لا تستهويني التجارة كثيراً وأيضا الوضع الاقتصادي الحالي، والركود التجاري، لا يُشجع في ممارسة أي نشاط تجاري كمبتديء، ناهيك عن تعقيد و صعوبة بعض الاجراءات.
والحمد الله زاد نشاطي و تعالت حيويتي وهمتي، وأصبحت أكثر فاعلية وإنتاجية في المجتمع، فالخروج من روتين معين لازمك أعواماً، هو بحد ذاته حرية، فالحرية ليس لها ثمن .