“حَتْماً ليس كَمَنْ سَمِعَ”
صالح بن خليفة القرني
كتب لنا اليوم أن نتفيأ ظلال الماضي حين زرنا متحف البيت الغربي بالرستاق كنت كثيراً ما أسمع عنه وقد تأكدت لي صدق مقولة: “ليس من رأى كمن سمع” كنت أعتقد أنه مجرد بيت طين عماني بسيط لذا لم أفكر في زيارته رغم كثرة الصور والمقاطع والمقالات التي تناولته ورغم أنه لا يبعد عن بيتي إلا ببضعة كيلو مترات.
كانت لنا اليوم زيارة لمحلة قصرى التي زرتها منذ سنوات خلت حين انتشرت إشاعة عن أصوات تصدر منها فرافقت صديقاً لنتبين مصدر الصوت فعدنا بخفي حنين فلا وحش ولا صوت ولا صورة، وها أنا اليوم أزورها للمرة الثانية.
قبل أنا أدخل البلدة كانت لي التفاتة لقلعة الرستاق التي تقبع غير بعيد منها وتبدو من هيبتها أنها تحرس المكان ثم التفت لسوق (بو ثمانية) وكانت غصة فلم يعد كما عهدته أبو ثمانية مجرد أسمنت يخلو من الروح يبكي من رحلوا وفاته ويحكي ذكريات طمرها الأسمنت وأماكن طالما ارتدناها ليس للتسوق فحسب بل لتنسم عبق الماضي بين جدرانه وروائح بهاراته وكل تفاصيله التي لا زالت عالقة بالذاكرة.
وحين وضعت أول خطوة في مدخل الحارة القديمة سمعت حواراً بين اثنين يجلسان على مدخل البلدة يقول أحدهما للآخر: هل تعرف هؤلاء؟ يبدو لي من هيئتهم أنهم ضيوف ولكن مهلاً ليسوا كذلك فمن حديثهم كأنهم من أبناء الرستاق بل هم كذلك ولكن أين خناجرهم وسلاحهم وعصيهم ومحازمهم؟! وافضيحتاه وقد جاءوا إلى موئل علم وفكر ودين، عاجله الآخر قائلاً: على رسلك فهؤلاء أحفادنا جاءوا للماضي يقلبون صفحاته وهم يحملون سلاحاً لم يعد منظوراً إنه المعرفة التي كانت قصرى رائدة فيها.
تدخل القرية فتكاد تسمع البيوت تئن والنوافذ تنوح وحين دخلنا البيت الغربي أصبت بالذهول فالبيت قصر عماني يحوى مقتنيات لا تقدر بثمن تعمدت أن ألتصق بالجدران لأسمع أنينها وأتلمس الزوايا واستنشق عبق الماضي فأعود لأكثر من أربعة عقود فقد بلغت أشدي وخطوت الخطوة الأولى من عقدي الخامس وهذه الأماكن تعود بي لسنيَّ الأول في بيتنا الطيني ببلدة المنازف، فيا للروائح التي تدغدغ المشاعر وتعبث بالوجدان.
تجولنا في المتحف الذي يصف البيت العماني القديم وصفاً دقيقاً وبأعمق التفاصيل ولا أدري ما الذي يجعلك تذرف الدموع هل هو الشوق للماضي؟ أم الحنين لأيام أجدادنا؟ أما الحسرة على هذا التاريخ الضارب في القدم وقد بدأت بعض ملامحة تندثر .
في الواقع نُكْبِر ونُجِلُ ونفخر بأختنا الفاضلة زكية اللمكية صاحبة المتحف على جهودها الجبارة في إعادة الحياة لهذا المعلم العريق خاصة وأن الأمر كان بجهود ذاتية وبدون أن تضع حتى لزيارة هذا المعلم أية رسوم وقد استحقت جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي بجدارة وقد تابعت لها مقابلة على التلفاز ورأيت مدى ارتباطها العاطفي بهذا البيت ومن أراد أن يعود بذاكرته وروحه للماضي فليزر ذلك المكان الذي تركنا فيه أرواحنا وخرجنا..”وليس من رأى كمن سمع”.