الاعتمادية إنها الخطر المتربص
صالح بن خليفة القرني
يقول أمين الريحاني في إحدى رسائله:
“المدينة العظمي هي التي تكثر فيها الأمهات الحازمات العازمات المدركات ماسما من مقاصد الحياة، فلا يعلمن أولادهن الخرافة والكذب والمراوغة، ولا يعودونهم الطاعة العمياء والجبن والخوف.”
لن أدخل في تفاصيل مدينة الريحاني العظمى ولن أتطرق للمدينة الفاضلة للفارابي وقبله أفلاطون ولكن ما يهمني الساعة التأكيد أن المثالية التي نَشَدَها الريحاني دفنت معه منذ ما يقارب السبعين عاما، ولن نستطيع أن نبلغها ولو حرصنا ولكننا قادرون بالتأكيد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه فما لا يدرك كله لا يترك جله.
إن الأم التي تفني زهرة شبابها لفلذة كبدها رعاية وتربية وتعليما تستحق كل احترام وتقدير وتبجيل وقبل هذا الأجر والمثوبة من الله تعالى، وهي تدرك بأنها مسؤولة عن ذلك أوليست راعية ومسؤولة عن رعيتها؟
وبالتأكيد لا أعفي الأب عن المسؤولية فهو مسؤول كذلك ودوره لا يقل فداحةً عن دورها، لذا ينبغي على الزوج أن يقف معها موقف الرجال فيساعدها ليغرس في أبنائه أن أعمال البيت يقوم بها الجميع وليست من واجبات الأم فقط.
أجد أن الريحاني كان محقاً حين ركز على الأمهات ودورهن في التربية فهن في الواقع من يقمن بأغلب الأعمال المنزلية وإن كانت مساهمة لبعض الرجال فهي نادرة والنادر لا يقاس عليه.
تنبري الأمهات هذه الأيام على المذاكرة استعداداً للامتحانات التي تقرع الأبواب أقصد يجلس الأبناء خاشعين للمذاكرة استعداداً للامتحانات وأجدني أميل إلى أن الجملة الأولى أكثر دقة، فنجد الأم هذه الأيام تقيم الدنيا ولا تقعدها وتبحث عن الامتحانات والملخصات وتواصل كلال ليلها بكلال نهارها وولدها مستلقٍ ” ولا على باله ” ينتظر دوره لتذاكر له حين الانتهاء من أخيه أو أخته وقد يكون دوره متأخراً ويكون التعب قد بلغ منها مبلغاً يجعلها تنام دون أن تتمكن من أن تنهي لولدها مذاكرته فيعود ذلك المدلل إلى البيت بعد الامتحان صاباً جام غضبه على المسكينة التي لفرط تعبها ما استطاعت أن تذاكر له في الليل ولفرط دلاله رفض أن يستيقظ في الصباح وتستمر على هذا المنوال سنوات.
هذا المدلل والذي اعتاد أن تُذاكر له دروسه سينسب كل تقصير وإخفاق وإهمال لأمه فهي الملام أولاً وأخيراً ثم يكبر ولا يستطيع من أمره شيئاً إلا بأمه أو أبيه فلم يعتاد تحمل المسؤولية ولم يشعر بالمبالاة لأموره فهناك من ينجزها عنه وهناك دائماً من يتلقى الصدمات نيابة عنه.
فتنشأ لديه الاعتمادية فلا يكاد يستطيع شيئاً إلا بوجود والديه فلن يختار تخصصاً ولا وظيفة ولا زوجة إلا بعد أن يرشده والداه، فينشأ لديه الطاعة العمياء التي حذر منها الريحاني من سنين فهو لا يملك من أمره شيء ووالداه هما من يتخذان القرارات المتعلقة بكل جوانب حياته.
إن الأسرة الواعية تدرك خطورة التربية وتعقيداتها ومستجدات العصر الحالي وتعرف أنه على الأب والأم على حد سواء أن يقوما بدورهما بلا إفراط ولا تفريط ويعلِّما أبناءهما طرق المذاكرة ويتركونهم يواجهون مشاكلهم بأنفسهم فلا ينجزون لهم نشاطاً ولا يعدون لهم مشروعاً ويبقى دورهما أرشادياً توجيهيا دون تدخل إلا باليسير ويحاسبانهم على التقصير والإهمال بالحرمان من أمور يحبونها والعقاب البسيط إن لزم الأمر فالأولاد متى ما وجدوا أبوين حازمين نشأوا أسوياء يمكن الاعتماد عليهم وكانوا لبنات بناء لا معاول هدم.