المسامح كريم
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
استعير عنوان هذه الزاوية اليوم بعنوان البرنامج التلفزيوني “المسامح كريم” الذي كان يقدمه الإعلامي المعروف (جورج قرداحي) والذي يسجل من خلاله مواقف بها الكثير من الحساسية الاجتماعية، وبها الكثير من المواقف الصادمة بين الطرفين الذي يؤمل أن يصلا الى نهاية “التسامح”، وقد نجح في كثير منها، وقد أخفق في كثير أخرى، فالمسألة ليست بتلك البساطة، فالماء بعد أن ينسكب وتتشربه الأرض يبقى من المستحيل إعادته إلى الإناء من جديد، كما أنه في الوقت نفسه ليست بذلك التعقيد في بعض المواقف الأخرى، وهنا ترخي المادة الإنسانية سدولها على المشهد الإجتماعي.
المساحة الاجتماعية مرهونة بهذه المادة الاجتماعية التي نادى بها – عالم الاجتماع إبن خلدون – وتبناها عبر نظريته الاجتماعية المعروفة، وهذه الاجتماعية بقدر بساطتها في جوانب معينة من حياتنا، إلا أنها شديدة التعقيد في ذات الجوانب، لأن كل ذلك يخضع لقناعات الناس، ومدى الإيمان بالحلول المطروحة، في حالة أن هناك حلولا مطروحة لمشكلة ما، وعدم الإيمان بها في جانب آخر، فالمادة الإجتماعية تأخذ جانبا حساسا في النفس، ولذلك قيل: “إن القلوب إذا تنافر ودها؛ مثل الزجاج كسرها لا يجبر”، إلا أنه في كثير من الأحيان، ونحن في زحمة انفعالاتنا لا نلتفت إلى هذه المسألة، حيث ننتصر لذواتنا، ضاربين بذوات الآخرين وحدودهم الآمنة عرض الحائط، وعندما ننتبه لفداحة الخطأ المرتكب تكون في الجانب الآخر، أن تلك النفوس التي قسونا عليها في لحظة ما، مجروحة، وجرحها هذا يحتاج إلى سنين من الإلتئام، وحتى وإن عادت، تعود مشوهة، وتحوطها ضبابية لا تعيد إليها نظارتها وألقها الذي كان.
هنا تفرض علينا المواقف التي نكون فيها، والتي غالبا، ما ننتصر إلى ذواتنا فيها، أن نحكم فيها جانب العقل، والحكمة، وعدم التسرع، وإلا أوقعنا أنفسنا في ذات الشرك الذي نقع فيه دائما، ونلوم أنفسنا بعد ذلك، حيث لا ينفع اللوم، والخطورة الأكبر أن نخضع جل المواقف إلى مفهوم الكسب والخسارة، وهو مفهوم “السوق”، فالفهم الإجتماعي ينأى بنفسه عن مفهوم السوق القائم على الربح والخسارة، ولذلك فالذين ينتصرون لهذا المفهوم يسقطون من أول امتحان يتعرضون له، لأنهم لا يريدون أن يخسروا، يريدون اسهمهم الإجتماعية دائما مرتفعة تحت أية ذريعة كانت، أساءت المبررات إلى الآخرين، أو أحسنت إليهم، وهذا ما لا يمكن تحققه أو تحقيقه في القصة الإجتماعية القائمة على التضحية، والتنازل، لأجل خاطر بقاء اللحمة الإجتماعية معززة مكرمة، ومن هنا تأتي مجموعة الشكاوي التي تثار بين الناس، لأن هناك طرفا لا يريد أبدا أن يتنازل عن مواقفه، وإن كانت تصطدم مع نجاح الصورة بشكل عام وتألقها، ويرى في التنازل عن شيء من جوانبها فيها إهانة، ومذلة، وضعف، وهو لا يقبل ذلك لأنه لا يريد ان ينعت بشيء من هذه، ويذهب عنه البعد المهم في هذه الناحية هو البعد القيمي الجميل، وهو الانتصار للحمة الإجتماعية من ناحية، وللمحافظة على كيان المجتمع من ناحية ثانية.
يعول كثيرا على جانب الخبرة في بقاء هذه الصورة في مناخها الإيجابي، فحداثة السن، معروف عنها الشطط، والتعجل في إتخاذ القرار المناسب، إلا هذه الصورة ذاتها تتعرض أيضا للخدش، إن تجوز التسمية، لأن كبار السن، وعلى الرغم من خبرتهم الأصيلة في كثير من القضايا الإجتماعية، إلا أنهم أكثر تصلبا في مواقفهم، وهذه في حد ذاتها اشكالية أخرى معيبة، ومناقضة، أما الأصغر سنا، ربما يكونون أكثر تسامحا، وإن غلبهم الشطط والتسرع في اتخاذ المواقف في لحظة فعل الحدث، ونركن دائما، أو هكذا يجب، أو على الاقل يفترض، إلى مفهوم “المسامح كريم”.