تأملات في سفوح جبل الضاد
راشد بن حميد الجهوري
سرى القوم في ليلة باردة شاتية، حتى قال قائلهم: (إذا ما المسارح كانت جليدا)، ولم يكونوا من أهل الطيرة والشؤم: (وما عاجلات الطير تدني من الفتى نجاحا)، بل الحزم كان شعارهم:
وما العجز إلا أن تشاورا عاجزا
وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا
وتأخر أحدهم عن الركب فلم ييأس من اللحاق بهم فكان لسان حاله: (ما زلت أبغي الحي أتبع ظلهم)، ومرض الآخر فاعتذر عن الذهاب، ونطق لسانه بالشكر لقومه:
نفسي الفداء لقوم زينوا حسبي
وإن مرضت فهم أهلي وعوادي
قال الراوي: واستيقظ القوم على صوت حمامة، وكأنه تشوقهم لمشاهدات البيان، وتأملات الفصاحة في سفوح جبل الضاد، فأنشد حاديهم:
مطوقة خطباء تسجع كلما
دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
وقبل الوصول أصاب القوم عطش شديد، فقام الكرماء يصبون الماء في الأفواه، ولعلهم هم الذين عناهم الشاعر: (سقاها ذوو الأحلام سجلا على الظما)، وزال العطش والهم والتعب، فكان لسان الحال: (سرى همي وهم المرء يسري)، وهبت رياح الذكرى، وتذكر القوم وصية الشاعر:
هبت شمالا فذكري ما ذكرتكم
عند الصفاة إلى شرقي حورانا
ولنساء القافلة وجد على فراق الأهل، فكانت تلك الصورة المعبرة: (عضت من الوجد بأطراف اليد).
وتحت شجرة وارفة الظلال في أسفل سفح جبل الضاد الشامخ، وقبل أن يتفرق القوم في رحلة التأملات والمشاهدات، أشار فصيح القافلة بيده للقوم أن يستمعوا إلى نصيحته الغالية:
إذا مر أحدكم بشوارد المتنبي أو أشعلت جذوة ذائقته حماسات أبي تمام أو قطف من ورود البحتري أو توقف عند سجالات جرير والفرزدق أو تأمل في قوالب خطب قس بن ساعدة أو لمست يداه ديباج المعلقات أو…
فقاطعه أحدهم: ثم ماذا؟!
فأجاب: فانقشوا على صخرة المآثر والمفاخر: لغة الأحلام ولحن الخلود ما زلت نبض قلوبنا ومجالس أسمارنا رغم أنف الحسود.
(أما قبل) كلمة أكدت أن اللغة العربية بفخامتها وتواصل إبداعاتها لم تتوقف عند عتبة الأدب الجاهلي، ولم تتجمد في مجالس الأمويين والعباسيين، ولكن نهر ابتكاراتها ما زال يتحف الزمان بالعجائب والجواهر والدرر، فعبارة (أما قبل) ابتكرها الأديب المعاصر مصطفى الرافعي، وكأنه أراد بها اتصالا بالماضي، لأن (أما بعد) هي اتصال بالمستقبل، وعنها قال الرافعي: (وأما قبل: فقد رأيت عندك الفجر، وأخذت منه نهارا أحمله في روحي لا يظلم أبدا، وخالطت عندك الربيع، وانتزعت منه حديقة خالدة النضرة في نفسي لا تذبل أبدا!).
وختاما: كتم أهل الفاقلة أسرار تأملاتهم في سفوح جبل الضاد، ولعل جماليات السجع والتشبيهات والبلاغة في شعرها ونثرها أبهرتهم إلى حد إيثار الصمت، وبقية القصة تجدونها في دواوين الشعر وكتب البلاغة.