2024
Adsense
مقالات صحفية

ﺑﻞ ﻧﺴﻠﻢ ﻭﻳﺴﻠﻤﻮﻥ

 

أحمد بن سالم الفلاحي

shialoom@gmail.com

من الأمثال الشعبية المتداولة عندنا في عمان؛ المثل الذي يقول: “إن سلمت ناقتي، ما علي من رفافتي”، وهو مثل معناه يضرب بعمق في تقويض اللحمة الاجتماعية، وجعل الجماعة أفرادا متناثرين، لا يجمعهم جامع، ولا يوحدهم قائد، هم للمصلحة أقرب، وللفرقة أسرع، تتكور مصالحهم للذات القاتلة، وتتوحد مقاصدهم للفردية المهلكة، يعبثون بمقدرات الجماعة، وينحازون للفرقة والوحدة، وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا، فحياتنا قائمة على الجماعة، وعلى الود والتناصر، والتواد والتآزر، منبع ذلك ديننا القويم، وقيم مجتمعنا الرصين، لا ينفك عن تحقيق ذلك فرد، الا الاستثناء، ولا يسعى الى غير ذلك الا من يعاني من عقد نفسية، ومن تحكمت به الأهواء الشخصية، وبذلك فهو عن الجماعة أبعد، وعن تماسك أفرادها أطرد.

والحياة في قسوتها ورخائها لا يمكن أن تنفك عن الالتفاف بين عناصر الجماعة الواحدة، ولا تغرد خارج سرب الاتحاد الجامع، وهنا أتكلم عن المجتمع الواحد في الوطن الواحد الذين تجمعهم مصالح الوطن والمجتمع في آن واحد، ولا أذهب إلى غير ذلك، حتى لا يتسع التأويل، وتخضع الصورة للمناقشة  والتهويل، فعمان موئل للوحدة، وعمان مقصد للنصرة، وعمان منهج للسماحة والتعاون، وعمان مشروع إنساني يتعاظم دوره، لأنها تتكئ على أرث عظيم، وتاريخ موغل في القدم، ومناخات للإخاء، تغرد أسراب الطيور على ضفاف شواطئها آمنة، وترسو سفن السلام على تقاسيم تخومها سالمة، من هنا هي مقصد زائر لن يمل، ومودعة آخر لن تطول غيبته.

هنا تستوقفني قصة من التراث الحضاري الجميل، الذي إن نقبنا بين بواطنه وجدنا ما يسر، وإن سعينا لاكتشاف مكنوناته احتوانا بما يدل، ولذلك نظل في كثير من الأحيان مأسورين لما نسمع، ومنجذبين لما نقرأ، ولا نشك قيد أنملة فيما يروى، خاصة منه المنتصر لنداء الفطرة، لأنه يعزز بقاءنا كبشر، ويعلي من شأن انتمائنا للعروبة والوطن، فهي مواقف للعزة أقرب، وللدين أعمق، وللفطرة السليمة أصدق، ومن ذلك  تروي بعض المصادر: “أن ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻨﺨﻌﻲ (كفيف البصر)، ﻭﺗﻠﻤﻴﺬﻩ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻣﻬﺮﺍﻥ ﺃﻋﻤﺶ ﺍﻟﻌﻴﻦ (ﺿﻌﻴﻒ ﺍﻟﺒﺼﺮ‏) – رحمهما الله – ﻭﻗﺪ ﺭﻭﻯ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﺠﻮﺯﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ (ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻢ): ﺃﻧﻬﻤﺎ ﺳﺎﺭﺍ ﻓﻲ إﺣﺪﻯ ﻃﺮﻗﺎﺕ ﺍﻟﻜﻮﻓﻪ ﻳﺮﻳﺪﺍﻥ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ، ﻭﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻤﺎ ﻳﺴﻴﺮﺍﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻗﺎﻝ ﺍﻹﻣﺎﻡﺍﻟﻨﺨﻌﻲ: ﻳﺎ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﻫﻞ ﻟﻚ ﺃﻥ ﺗﺄﺧﺬ ﻃﺮﻳﻘﺎً ﻭﺃﺧﺬ ﺁﺧﺮ، ﻓﺈﻧﻲ ﺃﺧﺸﻰ ﺇﻥ ﻣﺮﺭﻧﺎ ﺳﻮﻳﺎً ﺑﺴﻔﻬﺎﺋﻬﺎ، ﻟﻴﻘﻮﻟﻮﻥ ﺃﻋﻮﺭ ﻭﻳﻘﻮﺩه ﺃﻋﻤﺶ، ﻓﻴﻐﺘﺎﺑﻮﻧﻨﺎ ﻭﻳﺄﺛﻤﻮﻥ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻷﻋﻤﺶ: ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻋﻤﺮﺍﻥ؛ ﻭﻣﺎﻋﻠﻴﻚ ﺃﻥ ﻧﺆﺟﺮ ﻭﻳﺄﺛﻤﻮﻥ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻨﺨﻌﻲ: ﻳﺎ ﺳﺒﺤﺎﻥ ﺍﻟﻠﻪ! ﺑﻞ ﻧﺴﻠﻢ ﻭﻳﺴﻠﻤﻮﻥ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻧﺆﺟﺮ ﻭ ﻳﺄﺛﻤﻮﻥ”.

تلك اذن فطرتيهما السليمتين، والقصة فيها من العبرة ما فيها، على الرغم من تناقض الموقفين، وتنافر الرأيين، وكيفما كان الاتفاق فيما بعد، إلا أن النظرة المستشرفة لأفق الرحمة والود، والتسامح هي التي يعوّل عليها في الانتصار للجماعة، فإن بوحدتنا منتصرين، وبتكاتفنا ناجين، وبقربنا سالمين، فـ “الذئب لا يأكل إلا من الغنم القاصية” كما هو المثل أيضا، صحيح أن الحياة كما قال عنها ابن السماك – فيما يروى – فقد ” قيل لابن السماك – في زمن يزيد بن معاوية – كيف تركت الناس؟ قال: “مظلوم لا ينتصف، وظالم لا ينتهي”، ومع ذلك فعلى الناس أن ينحازون إلى المظلوم، ويضادون الظالم، ولا ينتصرون أبدا إلى ما حمله المثل في مطلع المقال.

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights