عبء الزمن
أحمد بن سالم الفلاحي
ليس أمامنا إلا التفاؤل، فمسيرة الحياة قائمة على ذلك بصورة مطلقة، “فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”، وللذين يجرون الزمن جرا، نحو ما يجب، ووفق رؤيتهم، أن ينصاع لرغباتهم فقط، ويوافق أهواءهم فقط، فهذا لن يتحقق، ولو عمروا الزمن كله، فهناك مقاييس لا بد أن تسير وفق هذه السنة الكونية، المحصورة ما بين ليل يعقبه نهار، ونهار يظلله ليل، وهكذا إلى آخر ما تبقى من عمر الحياة، ولا يمكن حرق المراحل أصلا بأي حال من الأحوال، والذين أنجزوا ما أنجزوه لم يخرجوا عن هذه التراتبية الزمنية قيد أنملة، ولكنهم حققوا شرطا رئيسيا في هذه المساحة الزمنية المتاحة لهم، وهي أنهم ابتعدوا عن التسويف، وذهبوا سريعا إلى التسويق، سوقوا أفكارهم، بعد أن تحققت أحلامهم على أرض الواقع، ووجدوا الزمن فرصتهم التي لا تعوض لتحقيق هذا الأمر.
أنهر من الزمن متدفقة على الجميع بلا أستثناء، ولكنها تظل “ماحلة” من المحل والجدب، إن لم تجد الاستغلال الأمثل للتوظيف، والإستغلال الأمثل للقياس والمقارنة بأزمانها المتناسخة فيما مضت، فنحن في أحوالنا عامة، نودع عاما، ونستقبل آخر مليئا بالكثير من الجهد، وبالكثير من الآمال والطموحات، ما تحقق ربما الكثير، وما لم يتحقق ربما الكثير أيضا، فالإنسان مرهون دائما بهذا الكثير، ولن يختزل طموحاته وآماله إلى الأدنى، وإلا لبقيت الحياة صغيرة، محدودة، متواضعة لن تعبر عن هذه الطموحات، وهذا الاشتغال الذي يعمل عليه الإنسان ليل نهار، في الراحة والرخاء، في الضنك والإستقرار، في أشد الأوقات حرجة، وفي اتساعها سعة ودعة، هكذا جبل الإنسان على مقارعة الظروف كيفما كانت، وكيفما تكون، ولذلك نرى من حولنا شعوبا تعيش معتركا زمنيا صعبا بكل المقاييس التي نعرفها، وبكل الاختزالات التي نسمع عنها، وبكل الخذلان الذي نقرأ عنه، وبكل الهزائم التي نراها؛ ومع ذلك هي صامدة، ومجاهدة، وعاملة، لا تزال معلقة نفوسها بآمال كبار سوف تشرق عليها غدا، وإن لم يسعفها العمر، فهناك تناسخ ممتد لأجيالها الباقية، ولأجيالها المناضلة، ولأجيالها المتشبثة بالحياة.
نعم؛ نقر أن الصدمات مجسات لامتحان إرادتنا، وبغيرها ربما لن نعرف لهذا الإرادات قيمتها الحقيقية، فما يتداول عبر ألسن الناس لمعنى الإرادة هو نوع من التنظير، ويبقى المعنى الحقيقي هو ما نعيشه على الواقع بكامل تفاصيله، ومن خلال هذه المعايشة ندرك كم نحن احببنا الحياة، فالذي لا يستطيع ان يواجه مصاعبه وصدماتها الشخصية البسيطة، لن يستطيع أن يضيف عمرا آخرا للإنسانية التي يتقاسم معها حلو الحياة ومرها، ويكفي أن يلملم خواطره المتداعية هنا أو هناك، ليقدم لمن حوله تجربته النموذجية، فذالك أكبر مساهمة منه في المساحة العامة التي يشترك فيها مع غيره، وليس هناك منا من لم يمر بتجربة قاسية في حياته، ومن خلال هذه المعايشة الرائعة في التعامل مع التجارب القاسية، تزدهر الحياة بتكاثر خضري يضفي على الوجود مساحات من الأمن والرضا والاطمئنان.
ومع كل فترة تمر نرى في أعمارنا محدد آخر لثيمة البقاء والاستمرار، لا يمكن تجاوزهما، ولا يمكن التساهل عنهما، أو العمل من دونهما، تمر الأعوام تلو الأعوام، ويبقى هذا الأمل الأبيض للعطاء منتشيا، فالتجربة تأصلت، والخبرة زادت، واستيعاب جوانب الحياة المختلفة تعمق، وبالتالي أصبح التعامل مع مجسات المصاعب، والمخاطر أكثر قدرة، وأكثر وضوحا، ويصبح في هذه الحالة أن هناك خيطا رفيعا يفصلنا عن الغد المأمول، والغد هنا معناه تحقيق ما نصبو إليه بصورة أكثر وضوحا، وأكثر انتصارا للذات الصابرة الشاكرة من غير تهويل لنخز الأبر من هنا أو هناك.