الماضي دروس والحاضر صفحات نكتبها
فؤاد آلبوسعيدي
siaq2007@gmail.com
من منّا لا يملك ماضٍ بأحداثه من أفعالٍ وأقوالٍ كان يعيشها وما زال بين الحين والآخر يتذكرها؟؟!!
الإجابة دائماً في الغالب هي لا أحد، فعلى الرغم من أنّ هنالك الكثير من الأشخاص الذين ينكرون ماضيهم ولا يعترفون به..؛ إلاّ أنّه وبالمقابل هنالك فئة تعترف وتؤمن بماضيها حلوه ومرّه وكأنهم مثلي تماماً قد سمعوا تلك المقولة التي وقعت منذ زمنٍ بعيد في أذناي وما زالت بصداها العتيق تتردّد دون أن أنساها (أنا لديّ ماضي وأنت لديك ماضي وأجدادنا لهم ماضي والجميع لديه ماضي وكلنا سنذهب من الدّنيا ونترك ذلك الماضي)، فبالفعل ذلك هو الواقع وإن حاولنا أن نخبأه أو أن نفعل مستحيلاً لكي نتحاشاه ونفعل المستحيل لكي نُعدِمه، فجميعنا نعيش الأمس الذي مضى ونعيش الحاضر الذي نصنعه ربّما إعتماداً على ماضي الأيام وقد ننجح بصنع مستقبلاً ناجحاً ومشرقاً إعتماداً على ما مررنا به في الماضي وما نعيشه الآن في حاضرنا.
..
البعض منّا يؤمن إيماناً كبيراً بمقولةٍ حفظناها منذ أيام الدراسة بمراحلها المبكّرة والمتقدّمة كذلك، هي مقولة أسكنّاها في تلابيب عقولنا ونحن نأخذ دروساً في التاريخ والتربية الوطنية (دون ماضٍ لن يكون لك حاضر) وحتّى في حصص اللّغة العربية قرأناها ونحن نستمع إلى ألسنة معلمينا وهو يبيّنون لنا أهمية المحافظة على كلّ ما يمتّ للآباء والأجداد من صلة إلينا، تلك الجملة هي كذلك كثيراً ما تكرّرت وسمعناها من ألسنةٍ مختلفة الثقافات والأوطان وهي كذلك تُذكر في محافلنا اليومية ونقرأها في صفحات التواصل الإجتماعي عندما نتغنى ويتغنى الآخرين بماضي وتاريخ دولهم ممجّدين أوطانناً كانت عتيّة وإمبراطوريات قامت في السابق ومعزّزين بأن ما يملكون من حاضر جميل في أوطانهم ما هو إلا نتاج ماضيهم العظيم.
..
جميل ما ذكرته في سطوري السالفة لكونه تفصيلاً واقعاً لما نعيشه، ولكن لنكن أكثر واقعية مع سُبرات ما نعيشه في كلّ أمور حياتنا اليومية الحقيقية وتلك العلاقات التي تكون بيننا كأصدقاء وزملاء وأشقاء وأزواج و…إلخ.
إذ ليس من اللاّئق أن نقوم بتحسيس علاقاتنا المجتمعية والأسرية أو حتى العملية بأمور مضت منذ سنين عديدة وربما عقود سالفة، ليس علينا أن نميط اللثام عن كلمات مذخورة ومعتوقة كأسلحة سريّة قمنا بالإحتفاظ عليها في بنك أوسرداب لا يراه ولا يشعر فيه غيرنا، ونقوم باستجلاب وباستخدام ذاك المخزون في الحاضر أو في قادم الأيام من أجل تذكير أحدهم بماضيه وفعلته منذ عشرات السنين، ليس من الطيب جعل تعاملنا قائم على مبدأ المحاسبة والتشهير الثنائي أو الجماعي بأخطاء وأحداث عملناها سابقاً، ولا بأس هنا أن نقتبس قليلاً من كلمات أحد علماؤنا..
(لا تجعل غيوم الماضي تغطي شمس الحاضر)
الشيخ محمد الغزالي.
..
وأنا أذكر الماضي في سطوري السّالفة، شدّتني بعضاً من الأمور التي تحدث مع الكثير من الناس بسبب مفعول (الماضي) الذّي كان من الواجب والأحرى أن ينتهي مع إنتهاء الفعل الذي تسبب به أو الزّمن الذي حدث به ذلك الفعل الماضي. يشتكي الكثير من النّاس بمدى الظلم (لنسميه العقاب) الذي قد يلامس مسيراتهم في حياتهم المهنية بأسباب قد مضى عليها شهوراً وأحياناً بفعل أمورٍ حدثت منهم بقصدٍ أو دون قصد منذ سنين كثيرة مضت، فيحدث أن يقع اللّوم عليهم دهراً طويلاً ملازماً لهم كظلٍّ لا يبرح عنهم حتى وإن ثابروا وبقوة على تصحيح أنفسهم وأعمالهم وعلاقاتهم مع رؤوسائهم وزملائهم في المجتمع العملي الذي يقضون فيه فترات طويلة قد تكون أطول من فترات وجودهم مع أُسرهم.
..
غريب أن يقوم أحدهم وهو في موقعه الوظيفي العالي كرئيس ومسؤول عن مجموعة كبيرة أو صغيرة من زملائه بتقسيمهم إلى قوائم ومجموعات قد توصف بالعنصرية، يقوم على أساسها التقييم السنوي الذي به يُرفع من شأن هذا ويُنزِل من شأن ذاك وذلك إعتماداً على ماضيهم في العمل ودوافع شخصية مضت منذ سنين سالفة، من المؤلم أن يكون البعض يمسي ويصبح وهو مصاباً بفوبيا الذهاب إلى العمل بسبب ما يجده من سوء تعامل وسلبية مستمرّة من قبل مسؤوليه، بات البعض مُغْصَباً يعيش في أجواء مهنية غير مرضية رغماً عنه، والأقسى أن يعيش مع مصطلح (القائمة السّوداء/Black List) الذي أصبح مصطلحاً واقعاً وموجوداً في كثيرٍ من المؤسسات الحكومية والخاصة حيث فيه يحدث أن يكون البعض هم المفضّلون والبعض الآخر رُغْماً عنهم هم المنبوذون الذّين مهما كان ما يقومون به من أمورٍ إيجابية في عملهم فإنهم لن يستطيعوا أن ينتزعوا أسمائهم من تلك القائمة السّوداء، ومن شديد الغرابة أن ينظر البعض إلى الآخرين على أساس ماضيهم الذي ربّما كان حدثاً عابراً كان المفترض محاسبته عند أوانه وليس دهراً يصاحبهم كمرضٍ فيروسيّ أو طاعونٍ لا يمكن الشّفاء منه.
..
يقول الرئيس المناضل -نيلسون مانديلا-..
(التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل)..؛ للأسف البعض يقع في مستنقع الفهم الخاطئ لكلمة (الماضي)، فنجده ينظر إلى تعامله مع تصرفات الآخرين أمامه مقرونة بأفعالهم وبأخطائهم السابقة متناسياً أن الزّمن كفيل بتغيير تصرفات وصفات بعض البشر الذين يتعامل معهم يومياً، ناسياً أن (الماضي دروس والحاضر صفحات نكتبها)، فمن الذائق واللائق أن نقوم بمحاسبة من لم نرضى عليه في ذات الوقت الذي أحدث فعلاً لا نحبه وعملاً أو تصرفاً أضرّنا أو سيتسبب بما لا نريده، أما إذا قمنا بمحاسبة من يقف أخطأ في حقّنا بعد شهورٍ وسنينٍ عدداً فذلك نوعاً ما يعدُّ تعديّاً على أخلاق التعامل بين هذا الشّاكي وذلك المشتكى الذي قد يكون قد نسى ما فعله أو قاله في الماضي.
..
لك الحقّ في إحقاق الحقّ الذي كنت تخزّنه في قلبك طويلاً، ولك مطلق الحرّية في تطبيق ما جاء في مقولة وعبارة (الظالم أو المخطئُ ينسى والمظلوم لا ينسى حقّه أبدا)، ولكن إن كنت عالماً ومتأكداً من صوابك وخطأ غيرك، فيلزمك في ذات اللّحظة والمكان تصويب ما إعتبرته إشكالاً قد أصابك بمكروه وخطأً ولغواً من شخص آخر تتعامل معه لكي لا تقع كذلك أنت في خانة الشّخص الظّالم، إذاً يجب عليك مهما كان وضعك الإجتماعي والوظيفي أن تحاسب غيرك في حاضره ولا تنبش ماضٍ قد ذهب بلا رجعة، وما أخطأ الطبيب والفيلسوف المسلم -ابن سينا- عندما قال..
(الوقت ينسي الألم و يطفئ الانتقام ، بلسم الغضب و يخنق الكراهية ، فيصبح الماضي كأن لم يكن).
وصدق الله العظيم إذ قال في مُحكم كتابه الكريم..
{وسلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم}.
.
.