مقال: وفي البداوة حسن …
أحمد بن سالم الفلاحي
شكلت الصحراء، ولا تزال، ذلك الامتداد الأفقي البعيد، الذي يتيح للنظر أن يأخذ دورته الكاملة للتمعن، والاستيعاب، والتأمل، ولذلك عد سكان الصحراء من أكثر الناس صفاء للروح، وتوقد في الذهن، وحضور للبديهة، وسرعة للتيقظ، وحافظ سكان الصحراء، الذين ترادفهم تسمية “البدو” كأحد المفردات الشعبية المتداولة في أوساط المجتمع، على خصوصيتهم المتميزة، من حيث اللباس، والعادات والقيم، والهمة العالية، وممارستهم لحياتهم الفطرية الخالصة؛ حتى عهد قريب، حيث بدأ وحي التحضر يتسلل بين مداخل حيواتهم المختلفة، وبدأ تأثير ذلك يتضح شيئا فشيئا في مختلف انشطتهم اليومية، بدءا من سكناهم في الفلل الضخمة، وتغيير في اللباس، وأخذهم بمظاهر الحياة الحديثة المختلفة، وخاصة من قبل النساء، ولم يعد قول القائل: “حسن الحضارة مجلوب بتطلية: وفي البداوة حسن غير مجلوب” يأخذ ذلك القدر من الأهمية في الحكم على سكان الصحراء في الوقت الحاضر، حيث لا مست حياتهم حياة الحضر، وهي الحياة التي كان يتأففون منها إلى وقت قريب، ويرون “الحضري” على أنه إنسان مرفه، وضعيف، وبقدر النظرة الدونية – في التفكير على وجه الخصوص – التي كان ينظر اليها “الحضري” إلى “البدوي” كانت نفس النظرة، كضربة مرتدة، ينظر بها البدوي إلى الحضري في ذات الوقت، هذه المساجلة المستمرة كان لها تأثيرا كبيرا في إطلاق جملة أحكام، أغلبها اتهامية، من أحدهما للآخر، وهذا أمر متوقع في ظل واقع يشهد منافسة غير متكافئة بين الطرفين، ولا تزال هذه المناكفة مستمرة حتى الآن، ولو بصورة أقل بكثير عما كان عليه الوضع، حيث تجسرت الهوة قليلا، وأصبح الجميع أقرب إلى الجميع.
قرأت مرة موضوعا يشير الى أن الاحتلال الإنجليزي لمصر هو الذي روج لدى الشعب المصري قصة “الصعيدي”، الذي ظل طوال فترات التاريخ، ولا يزال أيضا، هو من يوسم بالبساطة، والغباء، إن تجوز التسمية، على الرغم من أن أغلب عظماء مصر، كما يكتب عنهم أنهم من الصعيد، وكان هدف الاحتلال من ذلك الفت من عضد صلابة المجتمع المصري، لأن الصعيدي هو من تصدر في مقاومة الاحتلال، وهو الرجل المقدام في الحروب والمعارك، حيث لا يزال يتحلى بصفات رجل الصحراء، من حيث النبل، والشهامة، والكرم، والشجاعة، فلما رأى الاحتلال أنه ما من حل الا التحقير من قيمة هذا الإنسان الشهم، والباسه النظرة الدونية حتى يستطيع أن يتوغل بعد ذلك الى عضد المجتمع ويعمل فيه خلخلة التي يريد ليسهل التأثير عليه، ويبدو أن النظرة ذاتها تناسلت بعد ذلك الى مختلف الشعوب العربية، وحتى في مجتمعنا العماني كثيرا ما نسمع كلمة “الشاوي”، أو “البدوي” عند نعت شخص بعدم الفهم، أو بالاستهبال، او بالاستخفاف، وهذا كله يكرس النظرة الدونية تجاه فئات من أبناء المجتمع، على الرغم من أنه لا تمايز اليوم، فالجميع يحصل على حقوقه المدنية بلا استثناء، وبالتالي فالجميع على قدر من الوعي والثقافة، فهناك من كانوا سكان الصحراء “البدو” اصبح منهم الأطباء والمهندسين والمعلمين، وفي الصحافة والإعلام، وفي القانون والتشريع، بل وفي الوعظ والإرشاد، بمعنى استطاعوا بقدر ما أتيح لهم من فرص كثيرة أن يحققوها كأمثالهم من سكان الحضر، بل وتفوقوا على الحضر، بفضل صفاء الذهن، وتوقد الذاكرة.
وقرأت منذ فترة أيضا عن قبائل “الماساي”، و”الزولوا”، وهي قبائل افريقية بدائية، لا يزال يعيش الأغلبية منهم الحياة البدائية الأولى، ويتمظهرون بمظاهر تشمئز منها النفس، من حيث العري وغيره، ومع ذلك أصبح فيهم الأطباء والمهندسين، حيث يعيشون في المدن الكبيرة، ويتمتعون بحيوات حضرية لا تصدق، بل أكثر من الحضر أنفسهم.